قوله تعالى: { كلا } أي: حقاً. وقال مقاتل: { كَلاَّ } لا يعلم أن الله علمه. ثم استأنف فقال تعالى: { إن الإنسان ليطغى } يعني: أبا جهل. وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه، ومراكبه، وطعامه { أن رآه استغنى } قال ابن قتيبة: أي: أن رأى نفسه استغنى. و «الرُّجْعى» المرجع.
قوله تعالى: «أرأيت الذي ينهى» معنى: أرأيت: تعجيبه المخاطب، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب. والمراد بالناهي هاهنا: أبو جهل. قال أبو هريرة: قال أبو جهل هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيتُه لأَطَأَنَّ على رقبته. فقيل له: هاهو ذاك يصلي. فانطلق لِيَطَأَ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فأتَوْه فقالوا: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأَجْنِحَةً. وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" ، فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة. وقال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَه، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى: { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله. قال المفسرون: والمراد بالعبد هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت الصلاة صلاة الظهر.
قوله تعالى: { أرأيت إن كان على الهدى } يعني المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { أرأيتَ إن كذَّب وتولَّى } يعني: الناهي، وهو أبو جهل، قال الفراء: والمعنى: أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن الذِّكْر، فأي شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري: تقديره: أرأيته مصيباً.
قوله تعالى: { ألم يعلم } يعني أبا جهل { بأنَّ الله يرى } ذلك فيجازيه { كلا } أي: لا يعلم ذلك { لئن لم ينته } عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه { لنسفعاً بالناصية } السفع: الأخذ، والناصية: مُقَدَّم الرأس. قال أبو عبيدة: يقال: سفعتُ بيده، أي أخذتُ بها. وقال الزجاج: يقال سفعتُ الشيءَ: إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً. والمعنى: لَنَجُرَّنَّ ناصيته إلى النار.
قوله تعالى: { ناصيةٍ } قال أبو عبيدة: هي بدل، فلذلك جَرَّها. قال الزجاج: والمعنى: بناصية صاحبُها كاذبٌ خاطىءٌ، كما يقال: نهارُه صائم، وليله قائم، أي: هو صائم في نهاره، قائم في ليله { فليَدْعُ ناديه } أي: أهل ناديه، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم { سَنَدْعُ الزَّبانية } قال عطاء: هم الملائكة الغِلاظ الشِّداد. وقال مقاتل: هم خَزَنَةُ جهنم. وقال قتادة: الزَّبانية في كلام العرب: الشُّرَط. قال الفراء: كان الكسائي يقول: لم أسمع للزَّبانية بواحد، ثم قال بأَخَرة: واحد الزبانية: زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً. وقال أبو عبيدة: واحد الزبانية: زِبْنِيَة وهو كل متمرِّد من إنس، أو جان. يقال: فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة. قال ابن قتيبة: وهو مَأْخوذٌ من الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النار إليها. قال ابن دريد: الزَّبْن الدفع. يقال: ناقة زبون: إذا زَبَنَتْ حالبها، ودفعته برجلها. وتَزَابَنَ القوم: تدارؤوا. واشتقاق الزبانية من الزَّبْن. والله أعلم.
قوله تعالى: { كلا } أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل { لا تُطعْهُ } في ترك الصلاة { واسجد } أي: صَلِّ لله { واقترب } إليه بالطاعة، وهذا قول الجمهور أن قوله تعالى { واقترب } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إنه خطاب لأبي جهل. ثم فيه قولان.
أحدهما: أن المعنى: اسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النَّار، قاله زيد بن أسلم.
والثاني: واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له، رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القُدَماء. وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء"
.