التفاسير

< >
عرض

وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ
٤٤
وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ
٤٥
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ
٤٦
فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
-إبراهيم

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } أي يوم القيامة. و{ يوم } مفعول ثان لـ { أنذر } لا ظرف إذ الإنذار لا يكون في ذلك اليوم { فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي الكفار { رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم: { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث كقوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل:38] و{ ما لكم } جواب القسم. وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: { أقسمتم } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال، أو أريد باليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى فإنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب.

يقال: سكن الدار وسكن فيها ومنه { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر لأن السكنى من السكون وهو اللبث والأصل تعديته بـ «في» نحو «قر في الدار وأقام فيها» ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: «سكن الدار» كما قيل «تبوأها»، ويجوز أن يكون سكنوا من السكون أي قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله، وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالأخبار أو المشاهدة وفاعل { تبين } مضمر دل عليه الكلام أي تبين لكم حالهم و{ كَيْفَ } ليس بفاعل لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإنما نصب { كيف } بقوله { فَعَلْنَا بِهِمْ } أي أهلكناهم وانتقمنا منهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وبطلان الإسلام { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرهُمْ } وهو مضاف إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو إلى المفعول أي عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } بكسر اللام الأولى ونصب الثانية والتقدير: وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عن النبي عليه السلام بالجبال لعظم شأنه، و«كان تامة» و«إن» نافية واللام مؤكدة لها كقوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ } [الأنفال: 33] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً دليله قراءة ابن مسعود { وما كان مكرهم } وبفتح اللام الأولى ورفع الثانية عليُّ، أي وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها فـ «إن» مخففة من «إن» واللام مؤكدة.

{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51] { { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي } [المجادلة: 21] { مخلف } مفعول ثانٍ لـ { تحسبن } وأضاف { مخلف } إلى { وعده } وهو المفعول الثاني له والأول { رسله } والتقدير مخلف رسله وعده وإنما قدم المفعول الثاني على الأول ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله: { إن الله لا يخلف الميعاد } [آل عمران: 9] ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يماكر { ذُو ٱنتِقَامٍ } لأوليائه من أعدائه وانتصاب { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ } على الظرف للانتقام أو على إضمار اذكر والمعنى يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة وتبدل السماوات غير السماوات وإنما حذف لدلالة ما قبله عليه والتبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك «بدلت الدراهم دنانير» وفي الأوصاف كقولك «بدلت الحلقة خاتماً» إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً. وقيل: تخلق بدلها أرض وسماوات أخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي رضي الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب { وَبَرَزُواْ } وخرجوا من قبورهم { للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } هو كقوله: { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] لأن الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره كان الأمر في غاية الشدة