التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون. { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } تهودوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود. { وَٱلنَّصَـٰرَىٰ } جـمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامرأة نصرانة. والياء في نصراني للمبالغة كالتي في «أحمري» سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح. { وَٱلصَّـٰبِئِينَ } الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. وقيل: هم يقرؤون الزبور. { مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً { وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ } في الآخرة { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ومحل «من آمن» الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إن والمعطوف عليه. فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي، وفي الثاني «فلهم» والفاء لتضمن «من» معنى الشرط.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ } بقبول ما في التوراة. { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم. { خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَـٰكُم } من الكتاب أي التوراة { بِقُوَّةٍ } بجدٍ وعزيمة { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رجاء منكم أن تكونوا متقين. { ثمّ تولّيتم } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به. { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } من بعد القبول { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيقكم للتوبة. { لَكُنتُم مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } الهالكين في العذاب.

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد { ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت. وقد اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم فيه من التجـرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم. { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ } بتكويننا إياكم { قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغاروالطرد. يعني المسخة { نَكَـٰلاً } عبرة تنكل من اعتبر بها أن تمنعه. { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } لما قبلها. { وَمَا خَلْفَهَا } وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } أي واذكروا إذ قال موسى، وهو معطوف على نعمتي في قوله { { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 40] كأنه قال: اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى. وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي، واذكروا وقت إنجائنا إياكم، واذكروا وقت فرقنا، واذكروا نعمتي، واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه. والظروف التي تأتي إلى قوله { وَإِذَا ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ } [البقرة: 124]. { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن } أي بأن { تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } قال المفسرون: أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى «وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها». وذلك أن رجلاً موسراً اسمه «عاميل» قتله بنو عمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بديته فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله. { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. «هزأً» بسكون الزاي والهمزة: حمزة، وبضمتين والواو: حفص. غيرهما بالتثقيل والهمزة. { قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ } العياذ واللياذ من وادٍ واحد. { أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه، وفيه تعريض بهم أي أنتم جاهلون حيث نسبتموني إلى الاستهزاء.