التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عالمين بماهيتها، لأن «ما» وإن كانت سؤالاً عن الجنس، و «كيف» عن الوصف ولكن قد تقع «ما» موقع «كيف»، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشان، و«ما هي» خبر ومبتدأ. { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. وارتفع «فارض» لأنه صفة لـ «بقرة»، وقوله: { وَلاَ بِكْرٌ } فتية عطف عليه. { عَوَانٌ } نصف. { بَيْنَ ذٰلِكَ } بين الفارض والبكر، ولم يقل بين ذينك مع أن «بين» يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

إن أردت الخطوط فقل كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك. { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير.

{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } موضع «ما» رفع لأن معناه الاستفهام تقديره: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها. { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا } الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع، وهو توكيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل، ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها، وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جـد جده { تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ } لحسنها. والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. عن علي رضي الله عنه: من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى: «تسر الناظرين»، { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها، وعن النبي عليه السلام "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" والاستقصاء شؤم { إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَيْنَا } إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا { وَإِنَّا إِن شَاءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل، و«إن شاء الله» اعتراض بين اسم «إن» وخبرها. وفي الحديث " لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد" أي لو لم يقولوا إن شاء الله { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ } لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض { وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ } ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروق، و «لا» الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية { مُّسَلَّمَةٌ } عن العيوب وآثار العمل. { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لون آخر. { قَالُواْ ٱلئَـٰنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ } أي بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها، «جئت» وبابه بغير همز: أبو عمرو { فَذَبَحُوهَا } فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل، روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وكان براً بوالديه. فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة، وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة. { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } بتقدير «واذكروا»، خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم. { فَٱدرَأْتُمْ فِيهَا } فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفع، أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح، أو لأن الطرح في نفسه دفع، وأصاله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة ليمكن الإدغام، ثم سكنوا الدال إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن، «فاداراتم» بغير همز: أبو عمر. { وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً، وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ، وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم.