التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
٩٢
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٩٣
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
٩٤
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ
٩٥
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٩٦
قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٩٧
-البقرة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بالْبَيِّنَـٰتِ } بالآيات التسع وأدغم الدال في الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلي. { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً { مِن بَعْدِهِ } من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور. { وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ } هو حال أي عبدتم العجـل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها، أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ ما آتيناكُمْ بِقُوَّةٍ } كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى. { وَٱسْمَعُواْ } ما أمرتم به في التوراة. { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث إنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة. { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله: «في قلوبهم»، بيان لمكان الإشراب والمضاف وهو الحب محذوف. { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه. { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ } بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الإيمان اليهم. { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له. { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } أي الجنة. { عَندَ ٱللَّهِ } ظرف، و «لكم» خبر «كان» { خَالِصَةً } حال من الدار الآخرة أي سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً { مّن دُونِ ٱلنَّاسِ } هو للجنس. { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَـٰدِقِينَ } فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصاً من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه. { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } هو نصب على الظرف أي لن يتمنوه ما عاشوا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب الله وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله { وَلَن تَفْعَلُواْ } [البقرة: 24]، ولو تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث. { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } تهديد لهم.

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ } مفعولاً وجد - «هم» - و «أحرص» - { عَلَىٰ حَيَوٰةٍ } التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وعلى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة «أبي» على الحياة { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس، نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وإن دخلا تحت الملائكة، أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه، وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك. وقوله: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو قول الأعاجم زي هزارسال. وقيل: «ومن الذين أشركوا» كلام مبتدأ أي ومنهم ناسٌ يود أحدهم على حذف الموصوف، والذين أشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزيز ابن الله. والضمير في { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } لأحدهم. وقوله { أَن يُعَمَّرَ } فاعل «بمزحزحه» أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره، ويجوز أن يكون «هو» مبهماً و«أن يعمر» موضحه. والزحزحة التبعيد والإنحاء. قال في جـامع العلوم وغيره: «لو يعمر» بمعنى «أن يعمر»، فـ «لو» هنا نائبة عن «أن» و «أن» مع الفعل في تأويل المصدر وهو مفعول «يود» أي يود أحدهم تعمير ألف سنة. { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بعمل هؤلاء الكفار فيجـازيهم عليه. وبالتاء: يعقوب.

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } بفتح الجيم وكسر الراء بلا همز: مكي. وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعاً: كوفي غير حفص. وبكسر الراء والجيم بلا همز: غيرهم. ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد الله لأن «جبر» هو العبد بالسريانية و «إيل» اسم الله. روي أَن ابن صوريا من أحبار اليهود حاجّ النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال: جبريل. فقال: ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مراراً، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أي ذنب تقتلونه. { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } فإن جبريل نزل القرآن، ونحو هذا الإضمارـ أعني إضمار ما لم يسبق ذكره ـ فيه فخامة حيث يجـعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته. { عَلَىٰ قَلْبِكَ } أي حفظه إياك. وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193-194]، وكان حق الكلام أن يقال على قلبي ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به، وإنما استقام أن يقع فإنه «نزله» جزاء للشرط لأن تقديره إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. وقيل: جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً فإنه نزل الوحي على قلبك { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بأمره { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً.