التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٩
قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ
٣٠
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
٣١
قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
٣٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٣٣
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٣٤
وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
٣٥
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
٣٧
وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
٣٨
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٣٩
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٤٠
قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ
٤١
-سبأ

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } أي القيامة المشار إليها في قوله { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ { مّيعَادُ يَوْمٍ } فأبدل منه اليوم، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول «بعير سانية» { لاَّ تَسْتَـئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً للسؤال على الإنكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أبو جهل وذووه { لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَلاَ بِٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله أو القيامة والجنة والنار حتى إنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ } محبوسون { عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ } يرد { بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } في الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب: ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب فحذف الجواب { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ } أي الأتباع { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } أي للرؤوس والمقدمين { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } لولا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ } أولى الاسم أي نحن حرف الانكار لأن المراد إنكار أن يكون هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتوا من قبل اختيارهم { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } إنما وقعت «إذ» مضافاً إليها وإن كانت «إذ» و «إذا» من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا. { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } لم يأت بالعاطف في { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } وأتى به في { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ } لأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكراً بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أشباهاً. والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم { أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ } أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كر عليهم المستضعفون بقولهم { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ } أضمروا أو أظهروا وهو من الأضداد وهم الظالمون في قوله { إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ } يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين { لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } الجحيم { وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلَـٰلَ فِى أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي في أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا.

{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ } نبي { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } متنعموها ورؤساؤها { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس، وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر الثواب وذلك قوله:

{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } قدر الرزق تضييقه قال الله تعالى { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق: 7] { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب على المصدر أي تقربكم قربة كقوله { أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } الاستثناء من «كم» في { تُقَرّبُكُمْ } يعني أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. وعن ابن عباس: «إلا» بمعنى «لكن» ومن شرط جوابه { فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ } وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف، ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشراً وقرأ يعقوب { جَزَاءً ٱلضّعْفُ }، على «فأولئك لهم الضعف جزاء» { بِمَا عَمِلُواْ } بأعمالهم { وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ } أي غرف منازل الجنة { ٱلْغُرْفَةَ } حمزة { ءامِنُونَ } من كل هائل وشاغل.

{ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءايَـٰتِنَا } في إبطالها { مُعَـٰجِزِينَ أُوْلَـئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ } يوسع { لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ } «ما» شرطية في موضع النصب { مِن شَىْء } بيانه { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو آجلاً بالثواب جواب الشرط { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرازِقِينَ } المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشتهٍ لا يجد وواجد لا يشتهي.

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وبالياء فيهما: حفص ويعقوب. هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر:

إياك أعني واسمعي يا جاره

ونحوه قوله { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى } [المائدة: 116] الآية { قَالُواْ } أي الملائكة { سُبْحَـٰنَكَ } تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك { أَنتَ وَلِيُّنَا } الموالاة خلاف المعاداة وهي مفاعلة من الولي وهو القرب والولي يقع على الموالي والموالى جميعاً، والمعنى أنت الذي تواليه { مِن دُونِهِمُ } إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، أو صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها { أَكْثَرُهُمْ } أكثر الإنس أو الكفار { بِهِمُ } بالجن { مُؤْمِنُونَ }.