التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ
٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
٥
وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
٧
أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ
٨
-سبأ

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

مكية وهي أربع وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ٱلْحَمْدُ } إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق { لِلَّهِ } بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً { ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ } خلقاً وملكاً وقهراً فكان حقيقاً بأن يحمد سراً وجهراً { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلآخِرَةِ } كما هو له في الدنيا إذ النعم في الدارين من المولى، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر: 74] { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } [فاطر: 34] { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } بتدبير ما في السماء والأرض { ٱلْخَبِيرُ } بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض { يَعْلَمْ } مستأنف { مَا يَلْجُ } ما يدخل { فِى ٱلأَرْضِ } من الأموات والدفائن { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات وجواهر المعادن { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء } من الأمطار وأنواع البركات { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يصعد إليها من الملائكة والدعوات { وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ } بإنزال ما يحتاجون إليه { ٱلْغَفُورُ } لما يجترئون عليه.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي منكرو البعث { لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة { قُلْ بَلَىٰ } أوجب ما بعد النفي بـ «بلى» على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها { وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق. { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } مدني وشامي أي هو عالم الغيب { علامِ ٱلْغَيْبَ } حمزة وعلي على المبالغة { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } وبكسر الزاي: عليّ. يقال: عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } مقدار أصغر نملة { فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَلاَ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } من مثقال ذرة { وَلا أَكْبَرُ } من مثقال ذرة { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } إلا في اللوح المحفوظ، { وَلاَ أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ } بالرفع عطف على { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ويكون «إلا» بمعنى لكن، أو رفعاً بالابتداء والخبر { فِى كِتَـٰبِ } واللام في { لّيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لما قصروا فيه من مدارج الإيمان { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق بـ { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له.

{ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِى ءايَـٰتِنَا } جاهدوا في رد القرآن { مُعَـٰجِزِينَ } مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا. { مُعَـجِزِينَ } مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } برفع { أَلِيمٌ } مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب. قال قتادة: الرجز سوء العذاب، وغيرهم بالجر صفة لرجز.

{ وَيَرَى } في موضع الرفع بالاستئناف أي ويعلم { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه، والمفعول الأول لـ { يَرَىٰ } { ٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } يعني القرآن { هُوَ ٱلْحَقُّ } أي الصدق وهو فصل و { ٱلْحَقّ } مفعول ثانٍ أو في موضع النصب معطوف على { لِيَجْزِىَ } وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان { وَيَهْدِى } الله أو الذي أنزل إليك { إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } وهو دين الله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال قريش بعضهم لبعض { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم. وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً علماً في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره وباب التجاهل في البلاغة وإلى سحرها { يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق أي يفرقكم كل تفريق، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق، والعامل في { إِذَا } ما دل عليه { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تبعثون، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز { إِنَّكُمْ } بالفتح للام في خبره { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } أهو مفترٍ على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها { أَم بِهِ جِنَّةٌ } جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ } ثم قال سبحانه وتعالى: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك. وذلك أجن الجنون، جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة.