التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
-فاطر

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي العزة كلها مختصة، بالله عزة الدنيا وعزة الآخرة وكان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [مريم: 81]. والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال: { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [النساء: 139]. فبين أن لا عزة إلا بالله. والمعنى فليطلبها عند الله فوضع قوله { لِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } موضعه استغناء عنه به لدلالته عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه وماله ونظير قولك: «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار». تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت مايدل عليه مقامه، وفي الحديث "إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز" ثم عرف أن ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ } ومعنى قوله { إِلَيْهِ } إلى محل القبول والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود، أو إلى حيث لا ينفذ فيه إلا حكمه والكلم الطيب كلمات التوحيد أي لا إله إلا الله. وكان القياس الطيبة ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يذكر ويؤنث. والعمل الصالح العبادة الخالصة يعني والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب فالرافع الكلم والمرفوع العمل لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد. وقيل: الرافع الله والمرفوع العمل أي العمل الصالح يرفعه الله، وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع والكلم الطيب يصعد بنفسه. وقيل: العمل الصالح يرفع العامل ويشرفه أي من أراد العزة فليعمل عملاً صالحاً فإنه هو الذي يرفع العبد { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } هي صفة لمصدر محذوف أي المكرات السيئات لأن مكر فعل غير متعدٍ، لا يقال مكر فلان عمله. والمراد مكر قريش به عليه السلام حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال الله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [الأنفال: 130] الآية { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { وَمَكْرُ أُوْلَـئِكَ } مبتدأ { هُوَ } فصل { يَبُورُ } خبر أي ومكر أولئك الذين مكروا هو خاصة يبور أي يفسد ويبطل دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعاً حقق بهم. قوله تعالى { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } [الأنفال: 30] وقوله { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43].

{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } أي أباكم { مّن تُرَابٍ ثُمَّ } أنشأكم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰجاً } أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } هو في موضع الحال أي معلومة له { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي وما يعمر من أحد. وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ } يعني اللوح أو صحيفة الإنسان ولا ينقص زيد. فإن قلت: الإنسان إما معمر أي طويل العمر أو منقوص العمر أي قصيره، فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صح قوله { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد وعليه كلام الناس يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق. أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره فذلك نقصان عمره. وعن قتادة: المعمر من يبلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة { إِنَّ ذٰلِكَ } أي إحصاءه أو زيادة العمر ونقصانه { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } سهل.

{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا } أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } شديد العذوبة. وقيل: هو الذي يكسر العطش { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } مريء سهل الانحدار لعذوبته وبه ينتفع شرّابه { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } شديد الملوحة. وقيل: هو الذي يحرق بملوحته { وَمِن كُلِّ } ومن كل واحد منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وهي اللؤلؤ والمرجان { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ } في كل { مَوَاخِرَ } شواقّ للماء بجريها. يقال: مخرت السفينة الماء أي شقته وهي جمع ماخرة { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من فضل الله ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أتاكم من فضله. ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر. ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمته وعطائه، ويحتمل غير طريق الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه. والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ثم قال { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَـٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خشية الله } [البقرة: 74].

{ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } يدخل من ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة والناقص تسعاً { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذلل أضواء صوره لاستواء سيره { كُـلٌّ يَجْرِى لأَِجَـلٍ مُّسَـمًّى } أي يوم القيامة ينقطع جريهما { ذٰلِكُمُ } مبتدأ { ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ } أخبار مترادفة أو { ٱللَّهُ رَبُّكُمُ } خبر إن و{ لَهُ ٱلْمُلْكُ } جملة مبتدأة واقعة في قران قوله { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني الأصنام التي تعبدونها من دون الله يدعون قتيبة { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } هي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة { إِن تَدْعُوهُمْ } أي الأصنام { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } لأنهم جماد { وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض { مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية ويتبرءون منها { وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبك الله الخبير بخبايا الأمور، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به، والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به.