{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } حمد ذاته تعليماً وتعظيماً { فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ } مبتدئها ومبتدعها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي ابتدأتها { وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً } إلى عباده { أُوْلِى } ذوي اسم جمع لذو وهو بدل من { رُسُلاً } أو نعت له { أَجْنِحَةٍ } جمع جناح { مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير. وقيل: للعدل والوصف والتعويل عليه، والمعنى أن الملائكة طائفة أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ } أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره { مَا يَشَآءُ } وقيل: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن والخط الحسن والملاحة في العينين، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وذلاقة في اللسان ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } قادر.
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } نكرت الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قال من أية رحمة رزق أو مطر أو صحة أو غير ذلك { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها، واستعير الفتح للإطلاق والإرسال ألا ترى إلى قوله { وَمَا يُمْسِكُ } يمنع ويحبس { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } مطلق له { مِن بَعْدِهِ } من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمن معنى الشرط على معنى الرحمة، ثم ذكره حملاً على اللفظ المرجع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسر بالرحمة فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير. وعن معاذ مرفوعاً «لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظم برهم فاجرهم وتعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم». { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على الإرسال والإمساك { ٱلْحَكِيمُ } الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.
{ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ } باللسان والقلب { نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } وهي التي تقدمت من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل لبيان السبيل دعوة إليه وزلفة لديه، والزيادة في الخلق وفتح أبواب الرزق. ثم نبه على رأس النعم وهو اتحاد المنعم بقوله { هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } برفع { غَيْرُ } على الوصف لأن { خَـٰلِق } مبتدأ خبره محذوف أي لكم. وبالجر: علي وحمزة على الوصف لفظاً { يَرْزُقُكُمْ } يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون صفة لـ { خَـٰلِق } { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } بالمطر { وٱلأَرْضِ } بأنواع النبات { لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } جملة مفصولة لا محل لها { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } فبأي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك. { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها، وسلى رسوله بأن له في الأنبياء قبله أسوة ولهذا نكر { رُسُل } أي رسل ذوو عدد كبير وأولو آيات ونذر وأهل أعمال طوال وأصحاب صبر وعزم لأنه أسلى له، وتقدير الكلام وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك لأن الجزاء يتعقب الشرط، ولو أجرى على الظاهر يكون سابقاً عليه. ووضع { فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أي بالتذكيب عن التأسي { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه، { ترجع } بفتح التاء: شامي وحمزة وعلي ويعقوب وخلف وسهل.
{ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ } بالبعث والجزاء { حَقٌّ } كائن { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي الشيطان فإنه يمنِّيكم الأمانيّ الكاذبة ويقول إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك.
{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ } ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بأحواله { فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجَدنّ منكم إلا ما يدل على معاداته في سركم وجهركم. ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ }.
ثم كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه فقال { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه أي أتباعه { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } ولم يجيبوه ولم يصيروا من حزبه بل عادوه { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } لكبر جهادهم. ولما ذكر الفريقين قال لنبيه عليه السلام { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً } بتزيين الشيطان كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا، فقال { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } وذكر الزجاج أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرة، فحذف الجواب لدلالة { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ } عليه، أو أفمن له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } عليه. { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ }: يزيد أي لا تهلكها { حَسَرٰتٍ } مفعول له يعني فلا تهلك نفسك للحسرات و{ عَلَيْهِمْ } صلة { تَذْهَبْ } كما تقول: هلك عليه حباً ومات عليه حزناً. ولا يجوز أن يتعلق بـ{ حَسَرٰتٍ } لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم { وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ } { ٱلرّيحَ }: مكي وحمزة وعلي { فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } بالتشديد: مدني وحمزة وعلي وحفص، وبالتخفيف: غيرهم. { فَأَحْيَيْنَا بِهِ } بالمطر لتقدم ذكره ضمناً { ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها. وإنما قيل { فَتُثِيرُ } لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها. لما كان من الدليل على القدرة الباهرة قيل فسقنا وأحيينا معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } الكاف في محل الرفع أي مثل إحياء الموت نشور الأموات قيل يحيي الله الخلق بما يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق.