التفاسير

< >
عرض

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
١٢
تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٣
وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٤
وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
١٥
وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
١٦
إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧
-النساء

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوٰجُكُمْ } أي زوجاتكم { إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } أي ابن أو بنت { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } منكم أو من غيركم { فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ْ } والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، جـعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله: «للذكر مثل حظ الأُنثيين». { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } يعني للميت وهو اسم «كان» { يُورَثُ } من ورث أي يورث منه وهو صفة لـ «رجل» { كَلَـٰلَةً } خبر «كان» أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر «كان» وكلالة حال من الضمير في يورث. والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا ولداً وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء { أَو ٱمْرَأَةٌ } عطف على رجل { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي لأم فإن قلت: قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره؟ قلت: أما إفراده فلأن «أو» لأحد الشيئين، وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكر مبدوء به، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر { فَلِكُلِّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ } من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ٱلثُّلُثِ } لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين، فالأول الوالدان والأولاد، والثاني الزوجة، والثالث الزوج، والرابع الكلالة. { غَيْرَ مُضَارٍّ } حال أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث { وَصِيَّةً مّنَ ٱللَّهِ } مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بمن جار أو عدل في وصيته { حَلِيمٌ } على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد. فإن قلت: فأين ذو الحال فيمن قرأ «يوصي بها»؟ قلت: يضمر «يوصي» فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل «يوصي بها» علم أن ثمّ موصياً كما كان { رِجَالٌ } فاعل ما يدل عليه { { يُسَبّحُ } )النور: 36) لأنه لما قيل { يُسَبّحُ لَهُ } علم أن ثم مسبحاً فأضمر «يسبح».

واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف، وللأكثر الثلثان، وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس، وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام فيعصبها، والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب، وهن كالأخوات لأب وأم عند عدمهن، ويصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل، والأب وبالجد عند أبي حنيفةرحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث، وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد. والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل، ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي. والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا، وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين. والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب، والبعدى تحجب بالقربى، والكل بالأم والأبويات بالأب، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، وعند عدمه النصف. والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع. والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم. الابن ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، ثم الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم أعمام الجد، ثم المعتق، ثم عصبته على الترتيب. واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن. وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات.

{ تِلْكَ } إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث { حُدُودُ ٱللَّهِ } سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـٰلِداً فِيهَا } انتصب «خالدين» و«خالداً» على الحال، وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى «من» ولفظها. «ندخله» فيهما: مدني وشامي { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لهوانه عند الله. ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك. وقال الكلبي: ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالاً ثم خاطب الحكام فقال:

{ وَٱلَّلْفَـٰتِى } هي جمع «التي» وموضعها رفع بالابتداء { يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ } أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى { مِّن نِّسَائِكُمُ } « من» للتبعيض والخبر { فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ } فاطلبوا الشهادة { أَرْبَعةً مّنْكُمْ } من المؤمنين { فَإِن شَهِدُواْ } بالزنا { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ } فاحبسوهن { حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } أي ملائكة الموت كقوله { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [النحل: 28] أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ } قيل «أو» بمعنى «إلا أن» { سَبِيلاً } غير هذه. عن ابن عباس رضي الله عنهما: السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام "خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " والّذان } يريد الزاني والزانية. وبتشديد النون: مكي { يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } أي الفاحشة { فَـئَاذُوهُمَا } بالتوبيخ والتعيير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله { فَإِن تَابَا } عن الفاحشة { وَأَصْلَحَا } وغير الحال { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } فاقطعوا التوبيخ والمذمة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } يقبل توبة التائب ويرحمه. قال الحسن: أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة. والحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير، وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير، وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد، وقال ابن بحر: الآية الأولى في السحّاقات، والثانية في اللواطين، والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لأبي حنيفةرحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد. وقال مجاهد: آية الأذى في اللواطة { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ } هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها { عَلَى ٱللَّهِ } وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوءَ } الذنب لسوء عقابه { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه. وعن مجاهد: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. وقيل: جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية. وقيل: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته. { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله: «حتى إذا حضر أحدهم الموت». فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ينظر إلى ملك الموت. وعنه صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" و«من» للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً { فَأُوْلَٰـئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } عدة بأنه يفي بذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } بعزمهم على التوبة { حَكِيماً } حكم بكون الندم توبة.