التفاسير

< >
عرض

وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ
٢٢
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ
٢٣
فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ
٢٤
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
٢٦
فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٧
ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
٢٨
وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
-فصلت

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَأَمَّا ثَمُودُ } بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر { فَهَدَيْنَـٰهُمْ } وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره { فَهَدَيْنَـٰهُمْ } أي بينا لهم الرشد { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } فاختاروا الكفر على الإيمان { فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ } داهية العذاب { ٱلْهُونِ } الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم، وقال الشيخ أبو منصور: يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير. وقال صاحب الكشاف فيه: فإن قلت: أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد { وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } اختيار العمى على الهدى.

{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } أي الكفار من الأولين والآخرين. { نَحْشُرُ أَعْدَاءَ } نافع ويعقوب { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا } صاروا بحضرتها و«ما» مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل: وهي كناية عن الفروج { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } لما تعاظمهم من شهادتها عليهم { قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ } من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم.

{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } وذلك الظن هو الذي أهلككم، و{ ذٰلِكُمْ } مبتدأ و{ ظَنُّكُمُ } خبر و{ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ } صفته و{ أَرْدَاكُمْ } خبر ثانٍ أو{ ظَنُّكُمُ } بدل من { ذٰلِكُمْ } و{ أَرْدَاكُمْ } الخبر { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين، أو إن يسألوا العتبى ـ وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه ـ لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ } أي قدرنا لمشركي مكة، يقال: هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة، وقيل: سلطنا عليهم { قُرَنَآءَ } أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } كلمة العذاب { فِى أُمَمٍ } في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في { عَلَيْهِمْ } أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ } قبل أهل مكة { مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ } هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ } إذًّا قريء { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته { فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر.

{ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ } ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة { ٱلنَّارُ } عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول: لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها { جَزَآءً } أي جوزوا بذلك جزاء { بِمَا كَانُوا بِـئَايـٰتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا } وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخْذِ فَخْذ: مكي وشامي وأبو بكر. وبالاختلاس: أبوعمرو { ٱللَّذَيْنِ أَضَلَّـٰنَا } أي الشيطانين اللذين أضلانا { مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } في النار جزاء إضلالهم إيانا.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } أي نطقوا بالتوحيد { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه، وعن الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً: وعنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: حملتم الأمر على أشده. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل. وعن علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض. وعن الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقيل: حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } عند الموت { أن } بمعنى «أي» أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه { لاَ تَخَافُواْ } والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا، وقال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ } كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } من النعيم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } تتمنون { نُزُلاً } هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من «ما» { مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } نعت له.