التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
٢٣
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٢٤
وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٢٥
وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَٱلْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
٢٦
وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
٢٧
وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٨
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ
٢٩
وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ
٣٠
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٣١
وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٣٢
-الشورى

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ ذٰلِكَ } أي الفضل الكبير { ٱلَّذِى يُبَشِّرُ ٱللَّهُ } { يَبْشُر } مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي { عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي به عباده الذين آمنوا فحذف الجار كقوله { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [الأعراف: 155] ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله { أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان: 41]. ولما قال المشركون: أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجراً نزل { قُل لاَّ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على التبليغ { أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ } يجوز أن يكون استثناء متصلاً أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعاً أي لا أسألكم عليه أجراً قط ولكني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك «لي في آل فلان مودة ولي فيهم حب شديد» تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وليست «في» بصلة لـ { ٱلْمَوَدَّةَ } كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك «المال في الكيس» وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة، والمراد في أهل القربى. ورُوي أنه لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. وقيل: معناه إلا أن تودوني لقرابتي فيكم ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي إذ لم يكن من بطون قريش إلا بين رسول الله وبينهم قرابة. وقيل: القربى التقرب إلى الله تعالى أي إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } يكتسب طاعة. عن السدي: أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ومودته فيهم والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى.

{ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي نضاعفها كقوله { مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245] وقرىء { حسنى } وهو مصدر كالبشرى والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لمن أذنب بطوله { شَكُورٌ } لمن أطاع بفضله. وقيل: قابل للتوبة حامل عليها. وقيل: الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضل على المثاب { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها؟ { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } قال مجاهد: أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَـٰطِلَ } أي الشرك وهو كلام مبتدأ غير معطوف على { يَخْتِمْ } لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ورفع { وَيُحِقُّ } وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ بِٱلشَّرّ دُعَاءهُ بِٱلْخَيْرِ } [الاسراء: 11] و { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18] على أنها مثبتة في مصحف نافع { وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ } ويظهر الإسلام ويثبته { بِكَلِمَـٰتِهِ } مما أنزل من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأظهر الإسلام.

{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي عليم بما في صدرك وصدورهم فيجزي الأمر على حسب ذلك. { وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } يقال: قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي. ويقال: قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعود، وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التفصي على طريقه. وقال علي رضي الله عنه: هو اسم يقع على ستة معانٍ: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقناها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وعن السدي: هو صدق العزيمة على ترك الذنوب والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب. وعن غيره: هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره. وعن سهل: هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد: هو الإعراض عما دون الله { وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَـٰتِ } وهو ما دون الشرك، يعفو لمن يشاء بلا توبة { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } بالتاء: كوفي غير أبي بكر أي من التوبة والمعصية ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى: { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ } أي إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوه وزادهم على مطلوبهم. واستجاب وأجاب بمعنى، والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك «تعظم» و«استعظم» والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا. وقيل: معناه ويستجيب للذين فحذف اللام. مَنَّ عَليهم بأن يقبل توبتهم إذا تابوا ويعفو عن سيآتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما لنا ندعوه فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه { وَٱلْكَـٰفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة.

{ وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } أي لو أغناهم جميعاً { لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ } من البغي وهو الظلم أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا لأن الغني مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض { وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ } بالتخفيف: مكي وأبو عمرو { بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب. { وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } بالتشديد: مدني وشامي وعاصم { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } وقرىء { قِنطواْ } { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب. وقيل لعمر رضي الله عنه: اشتد القحط وقنط الناس. فقال: مطروا إذا أراد هذه الآية. أو أراد رحمته في كل شيء { وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ } الذي يتولى عباده بإحسانه { ٱلْحَمِيدُ } المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ } أي علامات قدرته { خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } مع عظمهما { وَمَا بَثَّ } فرق { وَمَا } يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً حملاً على المضاف أو المضاف إليه { فِيهِمَا } من السماوات والأرض { مِن دَابَّةٍ } الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببعضه كما يقال: بنو تميم فيهم شاعر مجيد وإنما هو في فخذ من أفخاذهم ومنه قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي { وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ } يوم القيامة { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } «إذا» تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال الله تعالى: { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [الليل: 1].

{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ } غم وألم ومكروه { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بجناية كسبتموها عقوبة عليكم. { بِمَا كَسَبَتْ } بغير الفاء: مدني وشامي على أن «ما» مبتدأ و{ بِمَا كَسَبَتْ } خبره من غير تضمين معنى الشرط، ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط. وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ وقال لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا. وقلنا: الآية مخصومة بالمكلفين بالسباق والسياق وهو { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي من الذنوب فلا يعاقب عليه أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة، وقال ابن عطاء: من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد: العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة، وعن علي رضي الله تعالى عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانياً وإذا عفا لا يعود { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } أي بفائتين ما قضى عليكم من المصائب { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ } متول بالرحمة { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حل بكم. { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ } جمع جارية وهي السفينة { الجواري } في الحالين: مكي وسهل ويعقوب، وافقهم مدني وأبو عمر في الوصل { فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاْعْلَـٰمِ } كالجبال.