{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ } { ٱلرّيَاحِ } مدني { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ } ثوابت لا تجري { عَلَىٰ ظَهْرِهِ } على ظهر البحر { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه أي لكل مؤمن مخلص فالإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر. أو صبار على طاعته شكور لنعمته { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } يهلكهن فهو عطف على { يُسْكِنِ } والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها { بِمَا كَسَبُواْ } من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } منها فلا يجازي عليها. وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم { وَيَعْلَمَ } بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم { ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءَايَـٰتِنَا } أي في إبطالهما ودفعها، { وَيَعْلَمُ } مدني وشامي على الاستئناف { مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } مهرب من عذابه { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من الثواب { خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } «ما» الأولى ضمنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله فلامه الناس { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ } عطف على { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وكذا ما بعده { كَبَـٰئِرَ ٱلإثْمِ } أي الكبائر من هذا الجنس، { كَبِيرَ ٱلإِثْمِ } علي وحمزة. وعن ابن عباس: كبير الإثم هو الشرك. { وَٱلْفَوٰحِشَ } قيل: ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ } من أمور دنياهم { هُمْ يَغْفِرُونَ } أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم. وإيقاعه مبتدأ وإسناد { يَغْفِرُونَ } إليه لهذه الفائدة ومثله { هُمْ يَنتَصِرُونَ }. { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } نزلت في الأنصار دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه { وَأَقَامُوا ٱلصَّلَٰوةَ } وأتموا الصلوات الخمس { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } يتصدقون.
{ وَٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ } الظلم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } ينتقمون ممن ظلمهم أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق. وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكل مطيع محمود. ثم بين حد الانتصار فقال { وَجَزَٰؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا. وإنما سميت لأنها مجازاة السوء، أو لأنها تسوء من تنزل به، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار، وإنما صارت حسنة لغيرها، أو في تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه. والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء { فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الذين يبدءون بالظلم أو الذين يجاوزون حد الانتصار. في الحديث:
"ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا" { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي أخذ حقه بعدما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول { فَأُوْلَـئِكَ } إشارة إلى معنى من دون لفظه { مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ } يبتدئونهم بالظلم { وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ } يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفسر السبيل بالتبعة والحجة { وَلَمَن صَبَرَ } على الظلم والأذى { وَغَفَرَ } ولم ينتصر { إِنَّ ذٰلِكَ } أي الصبر والغفران منه { لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه. وحذف الراجع أي «منه» لأنه مفهوم كما حذف من قولهم: السمن منوان بدرهم، وقال أبو سعيد القرشي: الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضا وهو أجل الأحوال، ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه ثم لم تنفعه شكواه. { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ } فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذابه { وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } يوم القيامة { لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } حين يرون العذاب واختير لفظ الماضي للتحقيق { يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا به. { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } على النار إذ العذاب يدل عليها { خـٰشِعِينَ } متضائلين متقاصرين مما يلحقهم { مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ } إلى النار { مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف. { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } { يَوْمٍ } متعلق بـ { خَسِرُواْ } وقول المؤمنين واقع في الدنيا أو يقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة { أَلآ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } دائم { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } من دون عذابه { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } إلى النجاة { ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ } أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } أي يوم القيامة { لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ } «من» يتصل بـ { لاَّ مَرَدَّ } أي لا يرده الله بعدما حكم به، أو بـ { يَأْتِىَ } أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } أي ليس لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم، والنكير الإنكار { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن الإيمان { فَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } رقيباً { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ } ما عليك إلا تبليغ الرسالة وقد فعلت { وَإِنَّآ إِذَا أَذَقْنَا ٱلإنسَـٰنَ } المراد الجمع لا الواحد { مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة وأمناً وصحة { فَرِحَ بِهَا } بطر لأجلها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } بلاء كالمرض والفقر ونحوهما. وتوحيد فرح باعتبار اللفظ والجمع في { وَإِن تُصِبْهُمْ } باعتبار المعنى { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب معاصيهم { فَإِنَّ ٱلإنسَـٰنَ كَفُورٌ } ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال:
{ إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34]. والكفور البليغ الكفران. والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها. قيل: أريد به كفران النعمة. وقيل: أريد به الكفر بالله تعالى. { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـٰثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ } أي يقرنهم { ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها، أتبع ذلك أن له تعالى الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء، فيخص بعضاً بالإناث، وبعضاً بالذكور، وبعضاً بالصنفين جميعاً، ويجعل البعض عقيماً. والعقيم التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له. وقدم الإناث أولاً على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء. ولما أخر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرّف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال { ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً }. وقيل: نزلت في الأنبياء عليهم السلام حيث وهب للوط وشعيب إناثاً، ولإبراهيم ذكوراً، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيـى وعيسى عليهما السلام عقيمين { إِنَّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } قادر على كل شيء.