التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
١٩
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٢٠
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ
٢١
بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ
٢٢
وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ
٢٣
قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٢٤
فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ
٢٦
إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
٢٧
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢٨
بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ
٢٩
وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
٣٠
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
٣١
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٣٢
-الزخرف

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } أي سموا وقالوا إنهم إناث { عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } مكي ومدني وشامي، أي عندية منزلة ومكانة لا منزل ومكان. والعباد جمع عبد وهو ألزم في الحجاج مع أهل العناد لتضاد بين العبودية والولاد { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } وهذا تهكم بهم يعني أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك ولا تطرقوا إليه باستدلال ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم ولم يشاهدوا خلقهم حتى يخبروا عن المشاهدة { سَتُكْتَبُ شَهَـٰدَتُهُمْ } التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم { وَيُسْـئَلُونَ } عنها وهذا وعيد.

{ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَـٰهُمْ } أي الملائكة. تعلقت المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان، فإن الكفار ادعوا أن الله شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام حيث قالوا { لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَـٰهُمْ } أي لو شاء منا أن نترك عبادة الأصنام لمنعنا عن عبادتها، ولكن شاء منا عبادة الأصنام، والله تعالى رد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَلِكَ } المقول { مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي يكذبون، ومعنى الآية عندنا أنهم أرادوا بالمشيئة الرضا وقالوا: لو لم يرض بذلك لعجل عقوبتنا، أو لمنعنا عن عبادتها منع قهر واضطرار، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك، فرد الله تعالى عليهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } الآية. أو قالوا ذلك استهزاءً لا جداً واعتقاداً، فأكذبهم الله تعالى فيه وجهلهم حيث لم يقولوا عن اعتقاد كما قال مخبراً عنهم. { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } [يس: 47]. وهذا حق في الأصل، ولكن لما قالوا ذلك استهزاءً كذبهم الله بقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } [يس: 47] وكذلك قال الله تعالى: { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ثم قال { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ } [المنافقون: 1] لأنهم لم يقولوه عن اعتقاد وجعلوا المشيئة حجة لهم فيما فعلوا باختيارهم، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على شيء فعلوه بمشيئته، وجعلوا أنفسهم معذورين في ذلك، فرد الله تعالى عليهم { أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً مِّن قَبْلِهِ } من قبل القرآن أو من قبل قولهم هذا { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } آخذون عاملون. وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره أشهدوا خلقهم أم آتيناهم كتاباً من قبله فيه أن الملائكة إناث { بَلْ قَالُوآ } بل لا حجة لهم يتمسكون بها لا من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع إلا قولهم { إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءَنَا } على دين فقلدناهم وهي من الأم وهو القصد فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد { وإِنّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ } الظرف صلة المهتدون أو هما خبران.

{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } نبي { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي متنعموها وهم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويعافون مشاق الدين وتكاليفه { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى ءَاثٰرِهِم مُّقْتَدُونَ } وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان أن تقليد الآباء داء قديم { قَٰلَ } شامي وحفص أي النذير، { قُلْ }: غيرهما أي قيل للنذير قل { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ } أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ { قَالُوآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } إنا ثابتون على دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ } أي واذكر إذ قال { إِنَّنِى بَرَآءٌ } أي بريء وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث كما تقول: رجل عدل وامرأة عدل وقوم عدل والمعنى ذو عدل وذات عدل { مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } استثناء منقطع كأنه قال: لكن الذي فطرني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } يثبتني على الهداية { وَجَعَلَهَا } وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } { كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ } في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم والترجي لإبراهيم. { بَلْ مَتَّعْتُ هَـؤُلآءِ وَءَابَآءَهُمْ } يعني أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي القرآن { وَرَسُولٌ } أي محمد عليه السلام { مُّبِينٌ } واضح الرسالة بما معه من الآيات البينة. { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } القرآن { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـٰفِرُونَ وَقَالُواْ } فيه متحكمين بالباطل { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ } فيه استهانة به { عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي رجل عظيم من إحدى القريتين كقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] أي من أحدهما، والقريتان: مكة والطائف. وعنوا بعظيم مكة الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي، وأرادوا بالعظيم من كان ذا مال وذا جاه ولم يعرفوا أن العظيم من كان عند الله عظيماً. { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبِّكَ } أي النبوة، والهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } ما يعيشون به وهو أرزاقهم { فِى ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُنْيَّأ } أي لم نجعل قسمة الأدون إليهم وهو الرزق فكيف النبوة؟ أو كما فضلت البعض على البعض في الرزق فكذا أخص بالنبوة من أشاء { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ } أي جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويصلوا إلى منافعهم هذا بماله وهذا بأعماله { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ } أي النبوة أو دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. ولما قلل أمر الدنيا وصغرها أردفه بما يقرر قلة الدنيا عنده فقال.