التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
٣٣
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
٣٤
وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
٣٥
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
٣٦
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
٣٧
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ
٣٨
وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
٣٩
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٠
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ
٤١
أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ
٤٢
فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٣
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ
٤٤
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
٤٥
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٤٦
فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ
٤٧
وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٤٨
وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ
٤٩
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
٥٠
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٥١
-الزخرف

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَوْلآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً } ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه { لَّجَعَلْنَا } لحقارة الدنيا عندنا { لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً } أي لجعلنا للكفار سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة، وجعلنا لهم زخرفاً أي زينة من كل شيء. والزخرف الذهب والزينة، ويجوز أن يكون الأصل سقفاً من فضة وزخرف أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفاً على محل { مِن فِضَّةٍ } لبيوتهم بدل اشتمال من { لِمَن يَكْفُرُ }. { سَقْفاً } على الجنس: مكي وأبو عمرو ويزيد. والمعارج جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي عليها يظهرون على المعارج يظهرون السطوح أي يعلونها { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } «إن» نافية و«لما» بمعنى إلا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقد قرىء به. وقرأ { لَمَا } غير عاصم وحمزة على أن اللام هي الفارقة بين «إن» المخففة والنافية و«ما» صلة أي وإن كل ذلك متاع الحياة الدينا { وَٱلآخِرَةِ } أي ثواب الآخرة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } لمن يتقي الشرك.

{ وَمَن يَعْشُ } وقرىء { وَمَن يعش } والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشى يعشى، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا يعشو. ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم { عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } وهو القرآن كقوله { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } ومعنى القراءة بالضم: ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل كقوله: { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ } [النمل: 14] { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة يحمله على المعاصي. وفيه إشارة إلى أن من داوم عليه لم يقرنه الشيطان { وَإِنَّهُمْ } أي الشياطين { لَيَصُدُّونَهُمْ } ليمنعون العاشين { عَنِ ٱلسَّبِيلِ } عن سبيل الهدى { وَيَحْسَبُونَ } أي العاشون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وإنما جمع ضمير { من } وضمير الشيطان لأن { من } مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه فجاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا } على الواحد: عراقي غير أبي بكر أي العاشي { جاآنا } غيرهم أي العاشي وقرينه { قَالَ } لشيطانه { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } يريد المشرق والمغرب فغلب كما قيل: العمران والقمران، والمراد بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق { فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } أنت.

{ وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ } إذ صح ظلمكم أي كفركم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين و«إذ» بدل من { ٱلْيَوْمَ } { أَنَّكُمْ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } { أَنَّكُمْ } في محل الرفع على الفاعلية أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا كقول الخنساء:

ولولا كثرة الباكين حوليعلى إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي

أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه. وقيل: الفاعل مضمر أي ولن ينفعكم هذا التمني أو الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه وهو الكفر، ويؤيده قراءة من قرأ { إِنَّكُمْ } بالكسر.

{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } أي من فقد سمع القبول { أَوْ تَهْدِى ٱلْعُمْىَ } أي من فقد البصر { وَمَن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلال.

{ فَإِمَّا } دخلت «ما» على «إن» توكيداً للشرط، وكذا النون الثقيلة في { نَذْهَبَنَّ بِكَ } أي نتوفينك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أشد الانتقام في الآخرة { أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِى وَعَدْنَـٰهُمْ } قبل أن نتوفاك يعني يوم بدر { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } قادرون وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال بقوله { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } الآية. ثم أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة بقوله { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } الآيتين. { فَٱسْتَمْسِكْ } فتمسك { بِٱلَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ } وهو القرآن واعمل به { إِنَّكَ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على الدين الذي لا عوج له { وَإِنَّهُ } وإن الذي أوحي إليك { لَذِكْرٌ لَّكَ } لشرف لك { وَلِقَوْمِكَ } ولأمتك { وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ } عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له وعن شكركم هذه النعمة { وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء، وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها. وقيل: إنه عليه السلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمهم، وقيل له: سلهم فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسل وهم أهل الكتابين أي التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال التقرير لعبدة الأوثان أنهم على الباطل. و{ سَلْ } بلا همزة: مكي وعلي { رُسُلُنَا } أبو عمرو.

ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ما أجابوه به عند قوله { إِنِّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } محذوف دل عليه قوله { فَلَمَّا جَآءَهُم بِـئَايَـٰتِنَا } وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً. و«إذا» للمفاجأة وهو جواب «فلما» لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محل «إذا» كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.

{ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها في نقض العادة، وظاهر النظم يدل على أن اللاحقة أعظم من السابقة وليس كذلك بل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس. يقال: هما أخوان كل واحد منهما أكرم من الآخر { وَأَخَذْنَـٰهُم بِٱلْعَذَابِ } وهو ما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن ٱلثَّمَرَاتِ } } { { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ } [الأعراف: 133] الآية. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن الكفر إلى الإيمان { وَقَالُواْ يَٰأيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لتعظيمهم علم السحر. { وَقَالُواْ يٰأيُّهُ ٱلسَّاحِرُ } بضم الهاء بلا ألف: شامي. ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة، أو بعهده عندك وهو النبوة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } مؤمنون به.

{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } ينقضون العهد بالإيمان ولا يفون به { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ } نادى بنفسه عظماء القبط أو أمر منادياً فنادى كقولك «قطع الأمير اللص» إذا أمر بقطعه { فِى قَوْمِهِ } جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَـٰرُ } أي أنهار النيل ومعظمها أربعة { تَجْرِى مِن تَحْتِى } من تحت قصري. وقيل: بين يدي في جناني. والواو عاطفة للأنهار على { مُلْكُ مِصْرَ } و{ تَجْرِى } نصب على الحال منها، أو الواو للحال واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة لاسم الإشارة، و{ تَجْرِى } خبر للمبدأ، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان خادمه على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال { أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ } والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } قوتي وضعف موسى وغناي وفقره.