التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٥
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦
رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ
٧
لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٨
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ
٩
فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
١٠
يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١
رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ
١٢
أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ
١٣
ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ
١٤
إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ
١٥
يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ
١٦
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ
١٧
أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
١٨
وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
١٩
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ
٢٠
وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ
٢١
-الدخان

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

في الخبر «من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفوراً له». { حـم وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } أي القرآن. الواو في { وَٱلْكِتَـٰبِ } واو القسم. إن جعلت { حـم } تعديداً للحروف، أو اسماً للسورة مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف، وواو العطف إن كانت { حـم } مقسماً بها وجواب القسم { إِنَّآ أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } أي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان. وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. والجمهور على الأول لقوله { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] وقوله { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [البقرة: 185] وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. ثم قالوا: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل في وقت وقوع الحاجة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: ابتداء نزوله في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ } هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. ومعنى { يُفْرَقُ } يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة { حَكِيمٍ } ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً.

{ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا } نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } بدل من { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } مفعول له على معنى أنزلنا القرآن. لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، أو تعليل لقوله { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا }، و { رَحْمَةً } مفعول به. وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2] والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوالهم { ٱلْعَلِيمُ } بأحوالهم { رَبِّ } كوفي بدل من { رَبَّكَ } وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ { ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول: إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته { لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِى وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ } أي هو ربكم { وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } عطف عليه.

ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ } وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب { فَٱرْتَقِبْ } فانتظر { يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ } يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص. وقيل: إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان { مُّبِينٍ } ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان { يَغْشَى ٱلنَّاسَ } يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة لـ { دُخَان } وقوله { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ } كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه إلى الجنون { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً } زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } هي يوم القيامة أو يوم بدر { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب { يَوْمَ نَبْطِشُ } بـ «اذكر» أو بما دل عليه { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } وهو ننتقم لا بـ { مُنتَقِمُونَ } لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ } قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً { قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } على الله وعلى عباده المؤمنين، أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم { أَنْ أَدُّوآ إِلَىَّ } هي «أن» المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله، أو المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليَّ سلِّموا إلي { عِبَادَ ٱللَّهِ } هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول: أدوهم إلي وأرسلوهم معي كقوله: { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } [طه: 47]. ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بقوله { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي على رسالتي غير متهم { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ } «أن» هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه، أو لا تستكبروا على نبي الله { أَنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَٰنٍ مُّبِينٍ } بحجة واضحة تدل على أني نبي { وَإِنِّى عُذْتُ } مدغم: أبو عمرو وحمزة وعلي { بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَٱعْتَزِلُونِ } أي إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عني، أو فخلوني كفافاً لا لي ولا عليَّ ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك. { ترجموني }، { فاعتزلوني } في الحالين: يعقوب.