التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
١٧
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ
١٨
فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ
٢٠
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
٢١
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ
٢٢
أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ
٢٣
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
٢٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ
٢٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
٢٦
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
٢٧
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٢٨
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
٢٩
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
٣٠
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ
٣١
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
٣٢
-محمد

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ } بالإيمان واستماع القرآن { زَادَهُمْ } الله { هُدًى } أي بصيرة وعلماً أو شرح صدورهم { وَءَاتَٰهُمْ تَقْوَٰهُمْ } أعانهم عليها أو آتاهم جزاء تقواهم أو بين لهم ما يتقون { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ } أي ينتظرون { أَن تَأْتِيهُم } أي إتيانها فهو بدل اشتمال من { ٱلسَّاعَةَ } { بَغْتَةً } فجأة { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } علاماتها وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وإنشقاق القمر والدخان. وقيل: قطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } قال الأخفش: التقدير فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ } أن الشأن { لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك. وفي شرح التأويلات جاز أن يكون له ذنب فأمره بالاستغفار له ولكنا لا نعلمه، غير أن ذنب الأنبياء ترك الأفضل دون مباشرة القبيح، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر. وقيل: الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في معايشكم ومتاجركم { وَمَثْوَاكُمْ } ويعلم حيث تستقرون من منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثوا كم في القبور، أو متقلبكم في أعمالكم ومثوا كم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى وأن يستغفره وسئل سفيان ابن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلائَ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم.

{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } فيها ذكر الجهاد { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } في معنى الجهاد { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال. وعن قتادة: كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة { وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ } أي أمر فيها بالجهاد { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } نفاق أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي تشخص أبصارهم جبناً وجزعاً كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ } وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولى وهو القرب ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف أي طاعة وقول معروف خير لهم { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } فإذا جد الأمر ولزمهم فرض القتال { فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ } في الإيمان والطاعة { لَكَانَ } الصدق { خَيْراً لَّهُمْ } من كراهة الجهاد. ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب بضرب من التوبيخ والإرهاب فقال:

{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } أي فلعلكم إن أعرضتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات. وخبر عسى { أَن تُفْسِدُواْ } والشرط اعتراض بين الاسم والخبر والتقدير: فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم إن توليتم { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى المذكورين { ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أبعدهم عن رحمته { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماع الموعظة { وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ } عن إبصارهم طريق الهدى.

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ } فيعرفوا ما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة حتى لا يجسروا على المعاصي. و «أم» في { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } بمعنى بل وهمزة التقرير للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكره. ونكرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك، والمراد بعض القلوب وهي قلوب المنافقين، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح نحو الرين والختم والطبع.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى } أي المنافقون رجعوا إلى الكفر سراً بعد وضوح الحق لهم { ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ } زين { لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً لـ «إن» نحو: إن زيداً عمرو مر به { وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } ومدّ لهم في الآمال والأماني { وَأُمْلِىَ } أبو عمرو أي امهلوا ومد في عمرهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ } أي المنافقون قالوا لليهود { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلأَمْرِ } أي عدواة محمد والقعود عن نصرته { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } على المصدر من أسر: حمزة وعلي وحفص. { أسْرَارَهُمْ } غيرهم جمع سر { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } أي فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ } عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذٰلِكَ } إشارة إلى التوفي الموصوف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { ٱتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ ٱللَّهَ } من معاونة الكافرين { وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } من نصرة المؤمنين { فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَـٰنَهُمْ } أحقادهم. والمعنى أظن المنافقون أن الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَـٰكَهُمْ } لعرّفناكهم ودللناك عليهم { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ } بعلامتهم وهو أن يسمهم الله بعلامة يعلمون بها وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } في نحوه وأسلوبه الحسن من فحوى كلامهم لأنهم كانوا لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم. واللام في { فَلَعَرَفْتَهُم } داخلة في جواب «لو» كالتي في { لأرَيْنَـٰكَهُمْ } كررت في المعطوف، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـٰلَكُمْ } فيميز خيرها من شرها.

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } بالقتال إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ } على الجهاد أي نعلم كائناً ما علمناه أنه سيكون { وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ } أسراركم وليبلونكم حتى يعلم. { ويبلو } أبو بكر وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ } وعادوه يعني المطعمين يوم بدر وقد مر { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى } من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا الرسول { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ } التي عملوها في مشاقة الرسول أي سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم.