التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
١٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٦
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٢
يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
٣٣
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٤
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ
٣٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٨
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
٣٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٠
يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ
٤١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٢
-الرحمن

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ } طين يابس له صلصلة { كَٱلْفَخَّارِ } أي الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف. ولا اختلاف في هذا وفي قوله { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26] { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] { مّن تُرَابٍ } [غافر: 67] لاتفاقها معنى لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ثم جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً { وَخَلَقَ ٱلْجَانَّ } أبا الجن قيل: هو إبليس { مِن مَّارِجٍ } هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط { مّن نَّارٍ } هو بيان لما رج كأنه قيل: من صاف من نار أو مختلط من نار، أو أراد من نار مخصوصة كقوله { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } [الليل: 14] { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } أراد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ومغربيهما.

{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } حاجز من قدرة الله تعالى { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ } { يَخْرُجُ } مدني وبصري { مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ } بلا همز: أبو بكر ويزيد وهو كبار الدر { وَالمَرْجَانُ } صغاره. وإنما قال { مِنْهُمَا } وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله. وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }.

{ وَلَهُ } ولله { ٱلْجَوَارِ } السفن جمع جارية. قال الزجاج: الوقف عليها بالياء والاختيار وصلها، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء { المنشآت } المرفوعات الشرع { المنشآت } بكسر الشين، حمزة ويحيـى الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن { فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلَـٰمِ } جمع علم وهو الجبل الطويل { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا } على الأرض { فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ } ذاته { ذُو ٱلْجَلْـٰلِ } ذو العظمة والسلطان وهو صفة الوجه { وَٱلإكْرَامِ } بالتجاوز والإحسان، وهذه الصفة من عظيم صفات الله وفي الحديث "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال: قد استجيب لك. { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } والنعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد. وقال يحيـى بن معاذ: حبذا الموت فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب.

{ يَسْأَلُهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } وقف عليها نافع كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم، وينتصب { كُلَّ يَوْمٍ } ظرفاً بما دل عليه { هُوَ فِى شَأْنٍ } أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً. وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال: أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلي، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال الأمير: أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل: سوق المقادير إلى المواقيت.

وقيل: إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } وقد صح أن الندم توبة، وقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وكذا قيل: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام. وأما قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك» يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه. ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فلا يبقى إلي شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل. { سيفرغ } حمزة وعلي أي الله تعالى { أَيُّه ٱلثَّقَلاَنِ } الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.

{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }.

{ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ } هو كالترجمة لقوله { أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَـٰرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هرباً من قضائي فاخرجوا، ثم قال { لاَ تَنفُذُونَ } لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بِسُلْطَـٰنٍ } بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل: دلهم على العجز عن قوتهم للحساب غداً بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم. وقيل: يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة احتاطت به { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } وبكسر الشين: مكي وكلاهما اللهب الخالص { وَنُحَاسٌ } أي دخان { وَنُحَاسٌ } مكي وأبو عمرو فالرفع عطف على شواظ، والجر على نار، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان منهما { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاء } انفك بعضها من بعض لقيام الساعة { فَكَانَتْ وَرْدَةً } فصارت كلون الورد الأحمر. وقيل: أصل لون السماء الحمرة ولكن من بعدها ترى زرقاء { كَٱلدّهَانِ } كدهن الزيت كما قال { كَٱلْمُهْلِ } [المعارج: 8] وهو دردي الزيت وهو جمع دهن وقيل: الدهان الأديم الأحمر { فبأيّ ءالآ

ءربّكما تكذّبان فيومئذٍ } أي فيوم تنشق السماء { لاَّ يُسْـئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } أي ولا جن فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال: هاشم ويراد ولده والتقدير: لا يسئل إنس ولا جان عن ذنبه. والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله { فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 92] وقوله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [الصافات: 24] أن ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسئلة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: لا يسئل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسئل للتوبيخ.

{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ } بسواد وجوههم وزرقة عيونهم { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاْقْدَامِ } أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام. { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }