التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً
٣٥
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً
٣٦
عُرُباً أَتْرَاباً
٣٧
لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٣٨
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
٣٩
وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
٤٠
وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ
٤١
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
٤٢
وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ
٤٣
لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
٤٤
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
٤٥
وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ
٤٦
وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
٤٧
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
٤٨
قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ
٤٩
لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
٥٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ
٥١
لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ
٥٢
فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ
٥٣
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ
٥٤
فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ
٥٥
هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ
٥٦
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ
٥٧
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
٥٨
ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ
٥٩
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٦٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦١
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ
٦٢
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ
٦٣
ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ
٦٤
لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
٦٥
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
٦٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٦٧
-الواقعة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ إِنَّا أَنشَأْنَـٰهُنَّ إِنشَاء } ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة، فإما أن يراد اللاتي ابتدىء انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن { فَجَعَلْنَـٰهُنَّ أَبْكَـٰراً } عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً { عُرُباً } { عرْباً } حمزة وخلف ويحيـى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَاباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك، واللام في { لأَِصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ } من صلة { أَنشَأْنَا } { ثُلَّةٌ } أي أصحاب اليمين ثلة { مّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ } فإن قلت: كيف قال قبل هذا { وَقِيلَ مَنْ ٱلآخَرِينَ } ثم قال هنا { وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ }؟ قلت: ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً. وعن الحسن: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة.

{ وَأَصْحَـٰبُ ٱلشّمَالِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلشّمَالِ } الشمال والمشأمة واحدة { فِى سَمُومٍ } في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناهي الحرارة { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } من دخان أسود { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى أنه ظل حار ضار { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } أي في الدنيا { مُتْرَفِينَ } منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يداومون { عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل: 38] { وَكَانُواْ يِقُولُونَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } تقديره: أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف، وجاز حذفه إذ { مَّبْعُوثُونَ } يدل عليه، ولا يعمل فيه { مَّبْعُوثُونَ } لأن «إن» والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما { أَوَ ءابَاؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير توكيد بـ «نحن» للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله { مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا } [الأنعام: 148] لفصل لا المؤكدة للنفي. { أَوَ ءابَاؤُنَا }مدني وشامي.

{ قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى «من» كخاتم فضة، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّالُّونَ } عن الهدى { ٱلْمُكَذّبُونَ } بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ } «من» لابتداء الغاية { مّن زَقُّومٍ } «من» لبيان الشجر { فَمَالِـئَونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ فَشَـٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه.

{ فَشَـٰرِبُونَ شُرْبَ } بضم الشين: مدني وعاصم وحمزة وسهل، وبفتح الشين: غيرهم وهما مصدران { ٱلْهِيمِ } هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم. وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ } هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له { يَوْمِ ٱلدّينِ } يوم الجزاء { نَحْنُ خَلَقْنَـٰكُمْ فَلَوْلاَ } فهلا { تُصَدّقُونَ } تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً.

{ أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف { ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً { أَم نَحْنُ ٱلْخَـٰلِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط { قَدَّرْنَآ } بالتخفيف: مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه، فمعنى قوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه. و{ أَمْثَـٰلَكُم } جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق { وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون { أَمْثَـٰلَكُم } جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ } { النشاءة } مكي وأبو عمرو { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

{ أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر { ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً { أَمْ نَحْنُ ٱلزرِعُونَ } المنبتون وفي الحديث: "لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت" { لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً } هشيماً متكسراً قبل إدراكه { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها { إِنَّاْ } أي تقولون إنا { أئنا } أبو بكر { لَمُغْرَمُونَ } لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.