التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ
١٤٨
قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
١٤٩
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١٥٠
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١٥٢
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٥٣
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
١٥٤
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٥٥
أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ
١٥٦
أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
١٥٧
-الأنعام

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } إخبار بما سوف يقولونه { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } أن لا نشرك { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ولكن شاء فهذا عذرنا، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك { كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي كتكذيبهم إياك. كان تكذيب المتقدمين رسلهم وتشبثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك إذ لم يقولوه عن اعتقاد بل قالوا ذلك استهزاء، ولأنهم جعلوا مشيئته حجة لهم على أنهم معذورون به وهذا مردود لا الإقرار بالمشيئة، أو معنى المشيئة هنا الرضا كما قال الحسن: أي رضي الله منا ومن آبائنا الشرك والشرك مراد لكنه غير مرضي، ألا ترى أنه قال { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أخبر أنه لو شاء منهم الهدى لآمن كلهم ولكن لم يشأ من الكل الإيمان بل شاء من البعض الإيمان ومن البعض الكفر، فيجب حمل المشيئة هنا على ما ذكرناه دفعاً للتناقض { حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى أنزلنا عليهم العذاب { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فتظهروه { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذبون { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم على الله بمشيئته { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي فلو شاء هدايتكم وبه تبطل صولة المعتزلة { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } هاتوا شهداءكم وقربوهم، ويستوي في هذه الكلمة الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع { ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا } أي ما زعموه محرماً { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا } من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } هم المشركون { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يسوون الأصنام.

{ قُلْ } للذين حرموا الحرث والأنعام { تَعَالَوْاْ } هو من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقول: من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر حتى عم { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } الذي حرمه ربكم { عَلَيْكُمْ } من صلة حرم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } «أن» مفسرة لفعل التلاوة و «لا» للنهي { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً. ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـٰدَكُمْ مِّنْ إمْلَـٰقٍ } من أجل فقر ومن خشيته كقوله { خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } [الإسراء: 31] { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مولاهم { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما بينك وبين الخلق { وَمَا بَطَنَ } ما بينك وبين الله، ما ظهر بدل من الفواحش { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } كالقصاص والقتل على الردة والرجم { ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ } أي المذكور مفصلاً أمركم ربكم بحفظه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لتعقلوا عظمها عند الله { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } إلا بالخصلة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أشده مبلغ حلمه فادفعوه إليه وواحده شد كفلس وأفلس { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } بالسوية والعدل { لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } فاصدقوا { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل كقوله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135] { وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ } يوم الميثاق أو في الأمر والنهي والوعد والوعيد والنذر واليمين { أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ } أي ما مر { وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف حيث كان: حمزة وعلي وحفص على حذف إحدى التاءين. غيرهم بالتشديد أصله «تتذكرون» فأدغم التاء الثانية في الذال أي أمركم به لتتعظوا.

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي } ولأن هذا صراطي فهو علة الاتباع بتقدير اللام، { وَأَنْ } بالتخفيف شامي، وأصله وأنه على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. { وَإنْ } على الابتداء: حمزة وعلي { مُّسْتَقِيماً } حال { فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فتفرقكم أيادي سبأ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستوياً ثم قال "هذا سبيل الرشد وصراط الله فاتبعوه" ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة ثم قال "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فاجتنبوها" وتلا هذه الآية. ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقاً ستة طرق فتكون اثنين وسبعين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب. وعن كعب: إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة { ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لتكونوا على رجاء إصابة التقوى. ذكر أولاً { تَعْقِلُونَ } ثم { تَذَكَّرُونَ } ثم { تَتَّقُونَ } لأنهم إذا عقلوا تفكروا ثم تذكروا أي اتعظوا فاتقوا المحارم { ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ تَمَامًا } أي ثم أخبركم إنا آتينا أو هو عطف على { قُلْ } أي ثم قل آتينا، و «ثم» مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله { ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ } [يونس: 46] { عَلَى ٱلَّذِي أَحْسَنَ } على من كان محسناً صالحاً يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله { عَلَى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أو أراد به موسى عليه السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كل ما أمر به { وَتَفْصِيلاً لّكُلِّ شَيْءٍ } وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاجون إليه في دينهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم } أي بني إسرائيل { بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أي بالبعث والحساب وبالرؤية.

{ وَهَـٰذَا } أي القرآن { كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ } كثير الخير { فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ } مخالفته { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لترحموا { أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا { إِنَّمَا أُنزِلَ ٱلْكِتَـٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } أي أهل التوراة وأهل الإنجيل، وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتبهم { لَغَـٰفِلِينَ } لا علم لنا بشيء من ذلك «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين على أن الهاء ضمير الشأن، والخطاب لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كيلا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما { أَوْ تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَـٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا وغزارة حفظنا لأيام العرب { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبِّكُمْ } أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } بعدما عرف صحتها وصدقها { وَصَدَفَ عَنْهَا } أعرض { سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنَا سُوءَ ٱلْعَذَابِ } وهو النهاية في النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } بإعراضهم.