التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٤
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٥
-الممتحنة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد ـ وكانوا فرساناً ـ وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } عدي «اتخذ» إلى مفعوليه وهما { عَدُوّى } و { أَوْلِيَاء } والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر، أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان { تُلْقُونَ } حال من الضمير في { لاَ تَتَّخِذُواْ } والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين { إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ. والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم. والباء في { بِٱلْمَوَدَّةِ } زائدة مؤكدة للتعدي كقوله: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] أو ثابتة على أن مفعول { تُلْقُونَ } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم { وَقَدْ كَفَرُواْ } حال من { لاَ تَتَّخِذُواْ } أو من{ تُلْقُونَ } أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم { بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ٱلْحَقّ } دين الإسلام والقرآن { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّـٰكُمْ } استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من { كَفَرُواْ } { أَن تُؤْمِنُواْ } تعليل لـ { يُخْرِجُونَ } أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم { بِٱللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب { لاَ تَتَّخِذُواْ } أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه { جِهَاداً فِى سَبِيلِى } مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي { وَٱبْتِغَاء مَرْضَاتِى } ومبتغين مرضاتي { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } أي هذا الإسرار { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } فقد أخطأ طريق الحق والصواب.

{ إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء } خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوء } بالقتل والشتم { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم. والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل: ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه.

{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَـٰمُكُمْ } قراباتكم { وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ } الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال { يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ } [عبس: 34] الآية. فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً. { يُفَصّلُ }: عاصم. { يُفَصّلُ } حمزة وعلي والفاعل هو الله عز وجل { يُفَصّلُ } ابن ذكوان غيرهم { يُفَصّلُ } { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على أعمالكم.

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ } قدوة في التبري من الأهل { حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ } أي في أقواله ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين وقيل: كانوا أنبياء { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ } جمع بريء كظريف وظرفاء { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ } بالأفعال { وَٱلْبَغْضَاء } بالقلوب { أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } فحينئذ نترك عداوتكم { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرٰهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَىْء } أي من هداية ومغفرة وتوفيق، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله: { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } [الفتح: 11] ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال: أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة. وقيل: معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أقبلنا { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } المرجع { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب { وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب الحاكم.