التفاسير

< >
عرض

فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
٣١
عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ
٣٢
كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٣٣
إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٣٤
أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ
٣٥
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٦
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
٣٧
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
٣٨
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
٣٩
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ
٤٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٤١
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٤٢
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ
٤٣
-القلم

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } نادى بعضهم بعضاً عند الصباح { أَنِ ٱغْدُواْ } باكروا { عَلَىٰ حَرْثِكُمْ } ولم يقل «إلى حرثكم» لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين { إِن كُنتُمْ صَـٰرِمِينَ } مريدين صرامه { فَٱنطَلَقُواْ } ذهبوا { وَهُمْ يَتَخَـٰفَتُونَ } يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } أي الجنة و«إن» مفسرة وقرىء بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها { ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ } والنهي عن دخول المساكين. نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول.

{ وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ } على جد في المنع { قَـٰدِرِينَ } عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم.

{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي جنتهم محترقة { قَالُواْ } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم! كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا { قَالُواْ سُبْحَـٰنَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَـٰوَمُونَ } يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر.

ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَـٰغِينَ } بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء { عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا } وبالتشديد: مدني وأبو عمرو { خَيْراً مّنْهَا } من هذه الجنة { إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا رٰغِبُونَ } طالبون منه الخير راجون لعفوه. عن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيراً منها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } أعظم منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب.

ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال:

{ إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرة { جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا. فقيل لهم: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كِتَـٰبٌ } من السماء { فِيهِ تَدْرُسُونَ } تقرؤون في ذلك الكتاب { إنّ لكم فيه لما تخيّرون } أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم. والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح «أن» لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } [الصافات: 78-79]. وتخير الشيء واختاره أخذ خيره { أَمْ لَكُمْ أَيْمَـٰنٌ عَلَيْنَا } عهود مؤكدة بالأيمان { بَـٰلِغَةٌ } نعت { أَيْمَـٰنٌ } ويتعلق { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أَيْمَـٰنٌ عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.

{ سَلْهُمْ } أي المشركين { أَيُّهُم بِذٰلِكَ } الحكم { زَعِيمٌ } كفيل بأنه يكون ذلك { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِينَ } في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ناصب الظرف { فَلْيَأْتُواْ } أو «اذكر» مضمراً. والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وهذا كما نقول: للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمة ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده { وَيُدْعَوْنَ } أي الكفار ثمة { إِلَى ٱلسُّجُودِ } لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع { خَـٰشِعَةً } ذليلة حال من الضمير في { يُدْعَونَ } { أَبْصَـٰرُهُمْ } أي يدعون في حال خشوع أبصارهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يغشاهم صغار { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ } على ألسن الرسل { إِلَى ٱلسُّجُودِ } في الدنيا { وَهُمْ سَـٰلِمُونَ } أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ.