التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
١٠
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
١١
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
١٢
قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ
١٣
قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤
قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
١٥
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١٦
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ
١٨
ويَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ
٢٠
وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ
٢١
-الأعراف

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً، أو مكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما. والوجه تصريح الياء لأنها أصلية بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة، وعن نافع أنه همز تشبيهاً بصحائف { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } مثل { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة: 42].

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ } أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه بعد ذلك دليله { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } ممن سجد لآدم عليه السلام { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } «ما» رفع أيْ أيّ شيء منعك من السجود؟ «ولا» زائدة بدليل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ص: 75] ومثلها { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } [الحديد: 29] أي ليعلم { إِذْ أَمَرْتُكَ } فيه دليل على أن الأمر للوجوب، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } وهي جوهر نوراني { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وهو ظلماني وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار، وفي النار الطيش والحدة والترفع وذلك دعاه إلى الاستكبار. والتراب عمدة الممالك، والنار عدة المهالك. والنار مظنة الخيانة والإفناء، والتراب مئنة الأمانة والإنماء، والطين يطفيء النار ويتلفها، والنار لا تتلفه. وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زل بفاسد من المقاييس. وقولنا في القياس أول من قاس إبليس قياس. على أن القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص. وكان الجواب لـ { مَا مَنَعَكَ } أن يقول «منعني كذا» وإنما قال { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } لأنه قد استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب ـ كأنه قال: منعني من السجود فضلي عليه، وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا } من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان المطيعين والمتواضعين. والفاء في { فَٱهْبِطْ } جواب لقوله { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } أي إن كنت تتكبر فاهبط { فَمَا يَكُونُ لَكَ } فما يصح لك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وتعصي { فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ } من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار { قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة { قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ } إلى النفخة الأولى. وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال.

{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أضللتني أي فبسبب إغوائك إياي. والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف تقديره فسبب إغوائك أقسم، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لأعترضن لهم على طريق الإسلام مترصداً للرد متعرضاً للصد كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة. وانتصابه على الظرف كقولك «ضرب زيد الظهر» أي على الظهر. وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري فقال له طاوس: تقوم أو تقام. فقام الرجل فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه { قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } وهو يقول أنا أغوي نفسي.

{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ } من قبل الحسنات { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } من قبل السيئات وهو جمع شمال يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب. وعن شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } [طه: 82]. ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فاقرأ { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6] وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ { وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83] وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ: 54] ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة، وقال في الأولين «من» لابتداء الغاية وفي الأخيرين «عن» لأن «عن» تدل على الانحراف { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } مؤمنين قاله ظناً فأصاب لقوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ: 20] أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم.

{ قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا } من الجنة أو من السماء { مَذْءومًا } معيباً من ذأمه إذا ذمه والذأم والذم العيب { مَّدْحُورًا } مطروداً مبعداً من رحمة الله. واللام في { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } موطئة للقسم وجوابه { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } وهو ساد مسد جواب الشرط { مّنكُمْ } منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب { أَجْمَعِينَ وَيا ءَادَمَ } وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } اتخذها مسكناً { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا } فتصيرا { مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ } وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وهو غير متئد، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا } ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول. فإن قلت: ما للواو المضمومة في { ووري } لم تقلب همزة كما في «أو يصل» تصغير واصل وأصله «وويصل» فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين؟ قلت: لأن الثانية مدة كألف «وارى» فكما لم يجب همزها في «واعد» لم يجب في { وورى } وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة، وهذا مدرك بالضرورة فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره. وقرأ عبد الله { أورى } بالقلب { وَقَالَ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء. وقرىء { مَلَكَيْنِ } لقوله { وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [طه: 120] { أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ } من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين { وَقَاسَمَهُمَا } وأقسم لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنهما من اثنين.