التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
١١
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
١٢
وَبَنِينَ شُهُوداً
١٣
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
١٤
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
١٥
كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً
١٦
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
١٧
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
١٨
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
١٩
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
٢٠
ثُمَّ نَظَرَ
٢١
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
٢٢
ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ
٢٣
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
٢٤
إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ
٢٥
-المدثر

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

مكية وهي ست وخمسون آية

بسم الله الرحمٰن الرحيم

روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت على جبل حراء: فنوديت يا محمد إنك رسول الله. فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً، فنظرت إلى فوقي فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض ــ يعني الملك الذي ناداه ــ فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني" فدثرته خديجة فجاء جبريل وقرأ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } أي المتلفف بثيابه من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر فأدغم { قُمْ } من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم { فَأَنذِرْ } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد. وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم فقيل له: يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار، قم فاشتغل بالأنذار وإن آذاك الفجار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي لا يكبر في عينك غيره وقل عندما يعروك من غير الله: الله أكبر. ورُوي أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر" فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي، وقد يحمل على تكبير الصلاة. ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره.

{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } بالماء من النجاسة لأن الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى في غير الصلاة، أو فقصر مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب وجرّهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة، أو طهر نفسك مما يستقذر من الأفعال يقال: فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، وفلان دنس الثياب للغادر ولأن من طهر باطنه يطهر ظاهره ظاهراً { وَٱلرُّجْزَ } بضم الراء: يعقوب وسهل وحفص، وغيرهم بالكسر العذاب والمراد ما يؤدي إليه { فَٱهْجُرْ } أي أثبت على هجره لأنه كان بريئاً منه { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } بالرفع وهو منصوب المحل على الحال أي لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً أكثر مما أعطيت فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق وأشرف الآداب، وهو من منّ عليه إذا أنعم عليه. وقرأ الحسن { تَسْتَكْثِرُ } بالسكون جواباً للنهي { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه وكل مصبور عليه ومصبور عنه { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ } نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل الثانية { فَذَٰلِكَ } إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ { يَوْمَئِذٍ } مرفوع المحل بدل من { ذٰلِكَ } { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. والفاء في { فَإِذَا } للتسبيب وفي { فَذَلِكَ } للجزاء كأنه قيل: اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه. والعامل في { فَإِذَا } ما دل عليه الجزاء أي فإذا نقر في الناقور عسر الأمر { عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } وأكد بقوله { غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأنه يسير على المؤمنين أو عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.

{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } أي كله إليّ يعني الوليد بن المغيرة وكان يلقب في قومه بالوحيد و{ مِنْ خلقت } معطوف أو مفعول معه { وَحِيداً } حال من الياء في { ذَرْنِى } أي ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره، أو من التاء في { خلقت } أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، أو من الهاء المحذوفة، أو من أي خلقته منفرداً بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بالنماء وكان له الزرع والضرع والتجارة. وعن مجاهد: كان له مائة ألف دينار. وعنه أن له أرضاً بالطائف لا ينقطع ثمرها { وَبَنِينَ شُهُوداً } حضوراً معه بمكة لغناهم عن السفر وكانوا عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } وبسطت له الجاه والرياسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر. وقال الحسن: أن أزيد أن أدخله الجنة فأوتيه مالاً وولداً كما قال { لأوتين مالاً وولداً } { كَلاَّ } [مريم: 77] ردع له وقطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه حتى هلك { إِنَّهُ كان لآيَـٰتِنَا } للقرآن { عَنِيداً } معانداً جاحداً وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه جحد آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد { سَأُرْهِقُهُ } سأغشيه { صَعُوداً } عقبة شاقة المصعد وفي الحديث "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبد"

{ إِنَّهُ فَكَّرَ } تعليل للوعيد كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته، وتسميته القرآن سحراً يعني أنه فكر ماذا يقول في القرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ما يقوله وهيأه.

{ فَقُتِلَ } لعن { كَيْفَ قَدَّرَ } تعجيب من تقديره { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } كرر للتأكيد و«ثم» يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول { ثُمَّ نَظَرَ } في وجوه الناس أو فيما قدر { ثُمَّ عَبَسَ } قطب وجهه { وَبَسَرَ } زاد في التقبض والكلوح { ثُمَّ أَدْبَرَ } عن الحق { وَٱسْتَكْبَرَ } عنه أو عن مقامه وفي مقاله. و{ ثُمَّ نَظَرَ } عطف على { فَكَّرَ وَقَدَّرَ } والدعاء اعتراض بينهما، وإيراد «ثم» في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراحياً { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا } ما هذا { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } يروى عن السحرة. رُوي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى. فقالت قريش: صبأ والله الوليد. فقال أبو جهل وهو ابن أخيه: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام الوليد، فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهم لا. ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثر عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرقوا متعجبين منه. وذكر الفاء دليل على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله نطق بها من غير تلبث { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } ولم يذكر العاطف بين هاتين الجملتين لأن الثانية جرت مجرى التوكيد للأولى.