مكية وهي إحدى وثلاثون آية
{ هَلْ أَتَىٰ } قد مضى { عَلَى ٱلإنْسَـٰنِ } آدم عليه السلام { حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ } أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر. ومحل { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ } أي ولد آدم، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن. ومشجه ومزجه بمعنى و { نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد { نَّبْتَلِيهِ } حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له { فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ذا سمع وبصر.
{ إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع { إِمَّا شَاكِراً } مؤمناً { وَإِمَّا كَفُوراً } كافراً حالان من الهاء في { هَدَيْنَـٰهُ } أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً. ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَٰسِلاَ } جمع سلسلة بغير تنوين: حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة، وبه ليناسب { أَغْلَـٰلاً وَسَعِيراً } إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب: غيرهم { وَأَغْلَـٰلاً } جمع غُلٍّ { وَسَعِيراً } ناراً موقدة. وقال { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } خمر فنفس الخمر تسمى كأساً. وقيل: الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر { كَانَ مِزَاجُهَا } ما تمزج به { كَـٰفُوراً } ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده { عَيْناً } بدل منه { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها. وإنما قال أولاً بحرف «من» وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل: يشرب عباد الله بها الخمر { يُفَجّرُونَهَا } يجرونها حيث شاءوا من منازلهم { تَفْجِيرًا } سهلاً لا يمتنع عليهم.
{ يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } بما أوجبوا على أنفسهم، وهو جواب «من» عسى أن يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى { وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ } شدائده { مُسْتَطِيراً } منتشراً من استطار الفجر { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله { مِسْكِيناً } فقيراً عاجزاً عن الاكتساب { وَيَتِيماً } صغيراً لا أب له { وَأَسِيراً } مأسوراً مملوكاً أو غيره. ثم عللوا إطعامهم فقالوا:
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً } هدية على ذلك { وَلاَ شُكُوراً } ثناء وهو مصدر كالشكر { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف { يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو: نهارك صائم. والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
{ فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } صانهم من شدائده { وَلَقَّـٰهُمْ } أعطاهم بدل عبوس الفجار { نَضْرَةً } حسناً في الوجوه { وَسُرُوراً } فرحاً في القلوب { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيثار. نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار. { جَنَّةً } بستاناً فيه مأكل هنيء { وَحَرِيراً } ملبساً بهياً { مُتَّكِئِينَ } حال من «هم» في { جزاهم } { فِيهَا } في الجنة { عَلَىٰ ٱلأَرَآئِكِ } الأسرة جمع الأريكة { لاَ يَرَوْنَ } حال من الضمير المرفوع في { مُتَّكِئِينَ } غير رائين { فِيهَا } في الجنة { شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي. وفي الحديث:
"هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ" فالزمهرير البرد الشديد. وقيل: القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـٰلُهَا } قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله: { { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا } } ــ { { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] ــ { وَذُلِّلَتْ } سخرت للقائم والقاعد والمتكىء وهو حال من { دَانِيَةٌ } أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة { قُطُوفُهَا } ثمارها جمع قطف. { تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِـئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ } أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب. والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء { وَأَكْوابٍ } أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } «كان» تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة. قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما. وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما. وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة، وفي الثاني لإتباعه الأول. والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } صفة لـ { قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ } أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.
{ وَيُسْقَوْنَ } أي الأبرار { فِيهَا } في الجنة { كَأْساً } خمراً { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً } بدل من { زَنجَبِيلاً } { فِيهَا } في الجنة { تُسَمَّىٰ } تلك العين { سَلْسَبِيلاً } سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه. وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها. قال أبو عبيدة: ماء سلسبيل أي عذب طيب.