التفاسير

< >
عرض

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
١
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ
٢
ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
٣
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً
١٧
يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً
١٨
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً
١٩
وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
٢٠
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
-النبأ

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

مكية وهي أربعون آية

بسم الله الرحمٰن الرحيم

{ عَمَّ } أصله «عن ما» وقرىء بها، ثم أدغمت النون في الميم فصار «عما» وقرىء بها، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية { يَتَسَاءلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره: عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم { ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك. وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه، فالمسلم يسأل ليزداد خشية، والكافر يسأل استهزاء { كَلاَّ } ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً { سَيَعْلَمُونَ } وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } كرر الردع للتشديد و«ثم» يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد.

{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ } لما أنكروا البعث. قيل لهم: ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ { مِهَـٰداً } فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } للأرض لئلا تيمد بكم { وَخَلَقْنَـٰكُمْ أَزْوٰجاً } ذكر أو أنثى { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً } ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً } سبع سموات { شِدَاداً } جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو الرياح لأنها تنشىء السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب { مَاءً ثَجَّاجاً } منصباً بكثرة { لِّنُخْرِجَ بِهِ } بالماء { حَبّاً } كالبر والشعير { وَنَبَاتاً } وكلأ { وَجَنَّـٰتٍ } بساتين { أَلْفَافاً } ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع، أو لفيف كشريف وأشراف، أو لا واحد له كأوزاع، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة. ولا وقف من { أَلَمْ نَجْعَلِ } إلى { أَلْفَافاً } الوقف الضروري على { أَوْتَاداً } و { مَعَاشاً }.

{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ } بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل { كَانَ مِيقَـٰتاً } وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب.

{ يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من { يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } أو عطف بيان { فِى ٱلصُّورِ } في القرن { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَاء } خفيف: كوفي أي شقت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أَبْوٰباً } فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ } عن وجه الأرض { فَكَانَتْ سَرَاباً } أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها. وقيل: المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها { لّلطَّـٰغِينَ مَـئَاباً } للكافرين مرجعاً { لَّـٰبِثِينَ } ماكثين حال مقدرة من الضمير في { لِلطَّـٰغِينَ } حمزة { لَّـبِثِينَ } واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان { فِيهَا } في جهنم { أَحْقَاباً } ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل: الحقب ثمانون سنة. وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة { لَّـٰبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً }.

{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } أي غير ذائقين حال من ضمير { لَّـٰبِثِينَ } فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها. وقيل: هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } تفسير له. وقوله { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } استثناء منقطع أي { لاَ يَذُوقُونَ } في جهنم أو في الأحقاب { بَرْداً } روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد، { وَلاَ شَرَاباً } يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه { وَغَسَّاقاً } ماء يسيل من صديدهم. وبالتشديد: كوفي غير أبي بكر { جَزَاءً } جوزوا جزاء { وِفَـٰقاً } موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق. ثم استأنف معللاً فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً { وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً } تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش { وَكُلَّ شىْءٍ } نصب بمضمر يفسره { أَحْصَيْنَـٰهُ كِتَـٰباً } مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً. وهذه الآية اعتراض لأن قوله { فَذُوقُواْ } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } في الحديث "هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار.

"