التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ
١٥
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٦
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
١٧
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ
١٨
وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ
١٩
فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ
٢٠
فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ
٢١
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ
٢٢
فَحَشَرَ فَنَادَىٰ
٢٣
فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ
٢٤
فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ
٢٥
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
٢٦
ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا
٢٧
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
٢٨
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
٢٩
وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
٣١
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا
٣٢
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٣
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ
٣٤
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ
٣٥
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ
٣٦
فَأَمَّا مَن طَغَىٰ
٣٧
وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٣٨
فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٣٩
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٤٠
فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٤١
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا
٤٢
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا
٤٣
إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ
٤٤
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا
٤٥
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا
٤٦
-النازعات

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ هل أتاك حديث موسى } استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به { إذ ناداه رَبُّهُ } حين ناداه { بالوَادِ المقَدَّسِ } المبارك المطهر { طوًى } اسمه { اذهب إلى فرعون } على إرادة القول { إنَّهُ طغى } تجاوز الحد في الكفر والفساد.

{ فقل هل لّك إلى أن تَزَكَّىٰ } هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان. وبتشديد الزاي: حجازي { وَأَهْدِيَكَ إلَىٰ رَبِّكَ } وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه { فَتَخْشَىٰ } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر: 28] أي العلماء به. وعن بعض الحكماء: اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين. فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير، ومن آمن اجترأ على كل شر. ومنه الحديث "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل" بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى: { { فقولا له قولاً ليناً } [طه: 44] { فأراه الآية الكبرى } أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة { فَكَذَّبَ } فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً { وعَصَىٰ } الله تعالى { ثمّ أدْبَرَ } تولى عن موسى { يَسْعَىٰ } يجتهد في مكايدته، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً { فَحَشَرَ } فجمع السحرة وجنده { فَنَادَىٰ } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه { فقال أنا ربّكم الأعلى } لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها { فأخذه الله نكال الآخرة } عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم. ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق { والأُولىٰ } أي الإغراق، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي { أنا ربكم الأعلى } والأولى وهي { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38] وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون { إنّ في ذلك } المذكور { لَعِبْرَةً لّمن يخشىٰ } الله.

{ ءَأنتُمْ } يا منكري البعث { أشَدُّ خَلْقاً } أصعب خلقاً وإنشاء { أم السَّمَاءُ } مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً. ثم بين كيف خلقها فقال { بناها } أي الله. ثم بين البناء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا } أعلى سقفها. وقيل: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فسواها } فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أظلمه { وأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أبرز ضوء شمسها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها { والأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحَاهَا } بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسر البسط فقال { أَخْرَجَ منها مَاءَها } بتفجير العيون { ومَرْعَاهَا } كلأها ولذا لم يدخل العاطف على { أخرج } أو { أخرج } حال بإضمار «قد».

{ والجبال أرساها } أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير { متاعاً لَّكُمَ ولأنعامِكُمْ } فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم { فإذا جاءتِ الطَّامَّةُ الكبرى } الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

{ يوم يَتَذَكَّرُ الإنسانُ } بدل من { إذا جاءت } أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها { ما سعى } مصدرية أي سعيه أو موصولة { وبُرِّزَتِ الجحيم } وأظهرت { لمن يرى } لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً.

{ فأمّا } جواب { فإذا } أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك { من طغى } جاوز الحد فكفر { وَءَاثَرَ الحَياةَ الدُّنْيَا } على الآخرة باتباع الشهوات { فإن الجَحِيمَ هِيَ المأوى } المرجع أي مأواه، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له { وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّهِ } أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه { وَنَهَىٰ النَّفْسَ } الأمارة بالسوء { عن الهوى } المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات. وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى ميل النفس إلى شهواتها { فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأْوَىٰ } أي المرجع { يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا } متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها { فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَآ } في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك: ليس فلان من العلم في شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.

{ إلى رَبِّكَ مُنتَهَاها } منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال. ثم قال { أنت من ذكراها } أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها، ولا يبعد أن يوقف على هذا على { فيم } وقيل { فيم أنت من ذكراها } متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها. ثم استأنف فقال { إلى ربك منتهاها } { إنّما أنت منذر من يخشاها } أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها. { منذر } منون: يزيد وعباس { كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } أي الساعة { لم يَلْبَثُوا } في الدنيا { إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله: { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [الأحقاف:35] [يونس: 45] وقوله: { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [الكهف:19][المؤمنون: 113] وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه، والله أعلم.