التفاسير

< >
عرض

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ
١٠١
وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٠٢
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٠٣
أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠٦
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ
١٠٨
-التوبة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { مّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } عطف على خبر المبتدأ الذي هو { مِمَّنْ حَوْلَكُم } والمبتدأ { مُنَـٰفِقُونَ } ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت «ومن أهل المدينة قوم» { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ، أو صفة لـ { مُنَـٰفِقُونَ } فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره، ودل على مهارتهم فيه بقوله { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم. ثم قال { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } هما القتل وعذاب القبر، أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي عذاب النار.

{ وَءَاخَرُونَ } أي قوم آخرون سوى المذكورين { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين، وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم فقال«: "وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم" فنزلت، فأطلقهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال: " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً" فنزل { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } { خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً } خروجاً إلى الجهاد { وَءاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه، أو التوبة والإثم وهو من قولهم «بعت الشاء شاة ودرهما» أي شاة بدرهم، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك «خلطت الماء واللبن» تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك «خلطت الماء باللبن» لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به. وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت «خلطت الماء باللبن واللبن بالماء» { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } كفارة لذنوبهم. وقيل: هي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } عن الذنوب وهو صفة لـ { صَدَقَة } والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتاء في { وَتُزَكِّيهِمْ } للخطاب لا محالة { بِهَا } بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها { إِنَّ صَلَوٰتَكَ } { صلاتك } كوفي غير أبي بكر. قيل: الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس { صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم.

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } إذا صحت { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ } ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } كثير قبول التوبة { ٱلرَّحِيمُ } يعفو الحوبة.

{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي فإن عملكم لا يخفى ـ خيراً كان أو شراً ـ على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة، فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. وقوله تعالى { فَسَيَرَى ٱللَّهُ }. وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ } ما يغيب عن الناس { وَٱلشَّهَـٰدَةِ } ما يشاهدونه { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تنبئة تذكير ومجازاة عليه { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } بغير همز: مدني وكوفي غير أبي بكر. { مرجئون } غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } إن أصروا ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله: { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ } { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } برجائهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة. ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله.

{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا } تقديره: ومنهم الذين اتخذوا. { ٱلَّذِينَ } بغير واو. مدني وشامي، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم. رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم ـ بنو غنم بن عوف ـ وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال: "إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه" فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي ـ قاتل حمزة ـ ومعن بن عدي وغيرهما: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام { ضِرَارًا } مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ } وإعداداً لأجل من { حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار { مِن قَبْلُ } متعلق بـ { حَارَبَ } أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق { وَلَيَحْلِفُنَّ } كاذبين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } في حلفهم { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } للصلاة { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } اللام للابتداء و { أُسِّسَ } نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أيام وجوده. قيل: القياس فيه مذ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان، و «من» لابتداء الغاية في المكان، والجواب إن من عام في الزمان والمكان { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مصلياً { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهّرِينَ } قيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء، فإذا لأنصار جلوس فقال: " أمؤمنون أنتم؟" فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال عليه السلام: "أترضون بالقضاء" ؟ قالوا: نعم. قال: "أتصبرون على البلاء؟ " قالوا: نعم. قال: "أتشكرون في الرخاء؟" قالوا: نعم. قال عليه السلام: "مؤمنون أنتم ورب الكعبة" فجلس ثم قال: "يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟" فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام: { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل: هو عام في التطهر عن النجاسات كلها. وقيل: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه

.