التفاسير

< >
عرض

فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٢
فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ
٨٣
وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
٨٤
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ
٨٥
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٨٦
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٨٧
لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨٨
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٨٩
وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
-التوبة

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيرهُ. يروي أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من النفاق { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ } أي ردك من تبوك. وإنما قال { إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } إلى غزوة بدر غزوة تبوك { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } وبسكون الياء: حمزة وعلي وأبو بكر { وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا } { مَعِىَ } حفص { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ } مع من تخلف بعد. وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمناً أن يكفن النبي صلى الله عليه وسلم أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل، فاعترض عمر رضي الله عنه في ذلك فقال عليه السلام: "ذلك لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه" فنزل { وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم } من المنافقين يعني صلاة الجنازة. روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبي صلى الله عليه وسلم { مَّاتَ } صفة لـ { أَحَدٌ } { أَبَدًا } ظرف لـ { تَصِلُ } وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل: { وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـٰسِقُونَ } تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى.

{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه { أَنْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ } بأن آمنوا أو هي «أن» المفسرة { وَجَـٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ } ذوو الفضل والسعة { وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ } أي النساء جمع «خالفة» { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ جَـٰهَدُواْ *** بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ } تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور لقوله { فِيهِنَّ خَيْرٰتٌ } [الرحمن: 70] { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بكل مطلوب { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } قوله { أَعَدَّ } دليل على أنها مخلوقة.

{ وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ مِنَ ٱلأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما فعل ولا عذر له، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل: هم أسد وغطفان قالوا: إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء } الهرمى والزمنى { وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة { حَرَجٌ } إثم وضيق في التأخر { إِذَا نَصَحُواْ ٱللَّهِ وَرَسُولُهِ } بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } المعذورين النّاصحين { مّن سَبِيلٍ } أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } يغفر تخلفهم { رَّحِيمٌ } بهم { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } لتعطيهم الحمولة { قُلْتَ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } و «قد» قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } هو جواب «إذا» { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } أي تسيل كقولك «تفيض دمعاً» وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض و «من» للبيان كقولك «أفديك من رجل»، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز، ويجوز أن يكون { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { حَزَناً } مفعول له { أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبة { حَزَناً } والمستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه، أو البكاؤون وهم ستة نفر من الأنصار.