التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
٤
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
٥
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
٦
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
٧
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
٨
وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ
٩
وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ
١٠
فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ
١١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ
١٢
فَكُّ رَقَبَةٍ
١٣
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
١٤
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ
١٥
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ
١٦
ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ
١٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ
١٩
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ
٢٠
-البلد

مدارك التنزيل وحقائق التأويل

{ لآ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق. واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد يعني مكة كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه فقال: { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ }. أي وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ونظير قوله { وَأَنتَ حِلٌّ } في الاستقبال قوله: { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [الزمر: 30]. وكفاك دليلاً على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟

{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } هما آدم وولده، أو كل والد وولده، أو إبراهيم وولده، و «ما» بمعنى «من» أو بمعنى «الذي» { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ } جواب القسم { فِى كَبَدٍ } مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعن ذي النون: لم يزل مربوطاً بحبل القضاء مدعواً إلى الائتمار والانتهاء. والضمير في { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، ثم قيل هو أبو الأشد. وقيل: الوليد بن المغيرة. والمعنى أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتصعب للمؤمنين أن لن تقوم قيامه ولن يقدر على الانتقام منه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي كثيراً جمع لبدة وهو ما تلبد أي كثر واجتمع، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً يعني أن الله تعالى كان يراه وكان عليه رقيباً. ثم ذكر نعمه عليه فقال { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } يبصر بهما المرئيات { وَلِسَاناً } يعبر عما في ضميره { وَشَفَتَيْنِ } يستر بهما ثغره ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار وقيل الثديين.

{ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار. وقلما تستعمل «لا» مع الماضي إلا مكررة، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد «لا» ثلاث مرات وتقديره: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن. والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والقُحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. والمراد بقوله { مَا ٱلْعَقَبَةُ } ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة.

{ فَكَّ رَقَبَةً * أَوْ إِطْعَامٌ } مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } اعتراض. غيرهم { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } على: اقتحامها فك رقبة أو إطعام. والمسغبة المجاعة، والمقربة القرابة، والمتربة الفقر، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب. ومعنى { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي داوم على الإيمان. وقيل: «ثم» بمعنى الواو. وقيل: إنما جاء بـ «ثم» لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } بالتراحم فيما بينهم { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ } أي المصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } بالقرآن أو بدلائلنا { هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـئَمَةِ } أصحاب الشمال والميمنة والمشأمة اليمين والشمال، أو اليمن والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدةٌ } وبالهمز: أبو عمرو وحمزة وحفص أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته والله أعلم.