التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٨٨
-يونس

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ وقال موسى } يعني لقومه { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا } يعني. فيه فثقوا ولأمره فسلموا فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه { إن كنتم مسلمين } يعني إن كنتم مستسلمين لأمره قيل إنما أعيد قوله إن كنتم مسلمين بعد قوله إن كنتم آمنتم بالله لإرادة إن كنتم موصوفين بالإيمان القلبي وبالإسلام الظاهري ودلت الآية على أن التوكل على الله والتفويض لأمره من كمال الإيمان وأن من كان يؤمن بالله فلا يتوكل إلا على الله لا على غيره { فقالوا } يعني قال قوم موسى مجيبين له { على الله توكلنا } يعني عليه اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا ربهم فقالوا { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } يعني لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغياناً وكفراً وقال مجاهد: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك وقيل معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا { ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } يعني وخلصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة قوله عز وجل: { وأوحينا إلى موسى وأخيه } هارون { أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً } يعني اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً للصلاة فيها يقال تبوأ فلان لنفسه بيتاً إذا اتخذه مباءة أي وطناً والمعنى اجعلا بمصر لقومكما بيوتاً ترجعون إليها للصلاة والعبادة { واجعلوا بيوتكم قبلة } اختلف أهل التفسير في معنى هذه البيوت والقبلة فمنهم من قال أراد بالبيوت المساجد التي يصلى فيها وفسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة فعلى هذا يكون معنى الكلام واجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقيل معناه اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.
واختلفوا في هذه القبلة، وظاهر القرآن لا يدل على تعيينها إلا أنه قد نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة لموسى وهارون، وهو قول مجاهد أيضاً قال ابن عباس: قالت بنو إسرائيل لموسى لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقيل كانت القبلة إلى جهة المقدس. وقيل: أراد مطلق البيوت وعلى هذا يكون معنى قوله واجعلوا بيوتكم قبلة أي مقابلة يعني يقابل بعضها بعضاً وقيل معناه واجعلوا في بيوتكم قبلة تصلون إليها.
فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى خص موسى وهرون بالخطاب في أول الآية بقوله سبحانه وتعالى: وأخيه أن تبوآ لقومكما ثم إنه عم بهذا الخطاب فقال تعالى: واجعلوا بيوتكم قبلة فما السبب فيه.
قلت: إنه سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون بأن يتبوءا لقومهما بيوتاً للعبادة وذلك مما يخص به الأنبياء فخصا بالخطاب لذلك.
ثم لما كانت العبادة عامة تجب على الكافة عمَّ بالخطاب الجميع فقال تعالى: واجعلوا بيوتكم قبلة { وأقيموا الصلاة } يعني في بيوتكم وذلك حين خاف موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل من فرعون وقومه إذا صلوا في الكنائس والبيع الجامعة أن يؤذهم فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يصلوا في بيوتهم خفية من فرعون وقومه، وقيل: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في الكنائس الجامعة وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريب تلك الكنائس ومنعهم من الصلاة فيها فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون وأظهرهما على فرعون أمرهم باتخاذ المساجد ظاهرة على رغم الأعداء وتكفل لهم بصونهم من شرهم وهو قوله سبحانه وتعالى: { وبشر المؤمنين } يعني بأنه لا يصل إليهم مكروه.
قوله سبحانه وتعالى: { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا } لما أتى موسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات ورأى أن القوم مصرون على الكفر والعناد والإنكار لما جاء به أخذ في الدعاء عليهم ومن حق من يدعو على الغير ان يذكر أولاً سبب إقدامه على الجرائم التي كانت سبب إصراره على ما يوجب الدعاء عليه.
ولما كان سبب كفرهم وعنادهم هو حب الدنيا وزينتها لا جرم أن موسى لما أخذ في الدعاء قدم هذه المقالة فقال { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا } والزينة عبارة عما يتزين به اللباس والدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه ثم قال تبارك وتعالى: { ربنا ليضلوا عن سبيلك } اختلفوا في هذه اللام فقال الفراء: هي لام كي فعلى هذا يكون المعنى ربنا إنك جعلت هذه الأموال سبباً لضلالهم لأنهم بطروا وطغوا في الأرض واستكبروا عن الإيمان.
وقال الأحفش: إنما هي لما يؤول إليه الأمر والمعنى إنك أتيت فرعون وملأه زينة في الحياة الدنيا فضلوا فعلى هذا هي لام العاقبة يعني فكان عاقبتهم الضلال، وقال ابن الأنباري: هي لام الدعاء وهي لام مكسورة تحزم المستقبل ويفتتح بها الكلام فيكون المعنى ربنا إنك ابتليتهم بالضلال عن سبيلك { ربنا اطمس على أموالهم } الطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو. ومعنى اطمس على أموالهم أزال صورها وهيئاتها. وقال مجاهد: أهلكها وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئتها، قال قتادة: بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة، وقال محمد بن كعب القرظي: صارت صورهم حجارة وكان الرجل مع أهله في فراشه فصار حجرين والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً وهذا فيه ضعف لأن موسى عليه السلام دعى على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ. وقال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة. قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة النخل والثمار والدقيق والأطعمة وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام { واشدد على قلوبهم } يعني اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان؛ قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لمن يشاء ولولا ذلك لما جسر موسى عليه السلام على هذا السؤال { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } يعني الغرق قاله ابن عباس وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه: قال موسى قبل أن يأتي فرعون ربنا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فاستجاب الله له دعاءه فحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان.
قال بعض العلماء: إنما دعا عليهم موسى بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون ذلك أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم في الأزل أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم.