التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٨
وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
١٠
إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
-هود

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى { ليقولن ما يحبسه } يعني: أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالاً بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشي قال الله عز وجل: { ألا يوم يأتيهم } يعني العذاب { ليس مصروفاً عنهم } أي لا يصرفه عنهم شيء { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } يعني ونزل بهم وبال استهزائهم.
قوله سبحانه وتعالى: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } يعني: رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا { ثم نزعناها منه } يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به { إنه ليؤوس كفور } يعني يظل قانطاً من رحمة الله آيساً من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولاً قليل الشكر لربه قال بعضهم: يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى: { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته } يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش { ليقولن } يعني الذي أصابه الخير والسعة { ذهب السيئات عني } يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عز وجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فلهذا ذمه الله تعالى فقال { إنه لفرح فخور } أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى: { إلا الذين صبروا، وعملوا الصالحات } قال الفراء: هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها { أولئك } يعني من هذه صفتهم { لهم مغفرة } يعني لذنوبهم { وأجر كبير } يعني الجنة.
قوله عز وجل: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه { وضائق به صدرك } يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهراً فأنزل الله عز وجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئاً وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئاً آخر سوى ما ذكره المفسرون.
وللعلماء في ذلك أجوبة:
أحدها: قال ابن الأنباري: قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً مما يوحى إليه إشفاقاً من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال:
{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [المائدة: 67] الآية.
الثاني: أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتحريضه على أداء ما أنزله إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه.
الثالث: أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه ويتهاونون به وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن يتحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم { أن يقولوا } يعني مخافة أن يقولوا { لولا أنزل عليه كنز } يعني يستغني به وينفقه { أو جاء معه ملك } يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي.
والمعنى أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت صادقاً في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكاً يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه صلى الله عليه وسلم نذير بقوله عز وجل: { إنما أنت نذير } تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك { والله على كل شيء وكيل } يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.