التفاسير

< >
عرض

يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٧
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
-يوسف

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف وأخيه، روي عن عبد الله بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله برداً وسلاماً وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وأنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لأخوته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه { ولا تيأسوا } أي ولا تقنطوا { من روح الله } يعني من رحمة الله وقيل من فضل الله وقيل من فرج الله { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين } يعني أن المؤمن على خير يرجوه من الله فيصبر عند البلاء فينال به خيراً ويحمد عند الرخاء فينال به خيراً والكافر بضد ذلك.
قوله تعالى: { فلما دخلوا عليه } فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما دخلوا عليه يعني على يوسف { قالوا يا أيها العزيز } يعنون يا أيها الملك والعزيز القادر الممتنع وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ { مسنا وأهلنا الضر } أي الشدة والفقر والجوع وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي ببضاعة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع.
وأصل الإزجاء في اللغة: الدفع قليلاً قليلاً والتزجية دفع الشيء لينساق كتزجية الريح السحاب ومنه قول الشاعر:

وحاجة غير مزجاة من الحاج

يعني هي قليلة يسيرة يمكن دفعها وسوقها لقلة الاعتناء بها وإنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لمجموعهما فلذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذه البضاعة المزجاة، فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفاً وقيل كانت خلق الغرائر والحبال، وقيل: كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط، وقال الكلبي ومقاتل: كانت حبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال، وقال الزجاج: سميت هذه البضاعة القليلة الرديئة مزجاة من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل من العيش والمعنى جئنا ببضاعة مزجاة لندافع بها الزمان وليست مما يتسع بها، وقيل: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن يدفعها { فأوف لنا الكيل } يعني أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي والمعنى إنا نريد أن تقيم لنا الزائد مقام الناقص والجيد مقام الرديء { وتصدق علينا } يعني وتفضل علينا بما بين الثمين الجيد والرديء ولا تنقصنا، هذا قول أكثر المفسرين قال ابن الأنباري: وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة وليس به واختلف العلماء هل كانت الصدقة حلالاً للأنبياء قبل نبينا أم لا فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم واستدل بهذه الآية وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا إن حال الأنبياء كلهم واحد في تحريم الصدقة عليهم لإنهم ممنوعون من الخضوع للمخلوقين والأخذ منهم، والصدقة أوساخ الناس فلا تحل لهم لأنهم مستغنون بالله عمن سواه.
وأجيب عن قوله وتصدق علينا أنهم طلبوا منه أن يجريهم على عادتهم من المسامحة وإيفاء الكيل ونحو ذلك مما كان يفعل بهم من الكرامة وحسن الضيافة لا نفس الصدقة وكره الحسن ومجاهد ان يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا لأن الصدقة لا تكون إلا ممن يبتغي الثواب وروي أن الحسن سمع رجلاً يقول اللهم تصدق عليّ فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل عليّ، وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا يعني برد أخينا علينا { إن الله يجزي المتصدقين } يعني بالثواب الجزيل وقال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن { قال } يعني قال يوسف لإخوته { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله حمل يوسف وهيجه على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته رقة على إخوته فباح بالذي كان يكتم، وقيل: إنه أخرج لهم نسخة الكتاب الذي كتبوه ببيعه من مالك وفي آخره وكتبه يهوذا فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا يا أيها الملك إنه كان لنا عبد فبعناه منه فغاظ ذلك يوسف وقال: إنكم تستحقون العقوبة وأمر بقتلهم فلما ذهبوا بهم ليقتلوهم قال يهوذا كان يعقوب يبكي ويحزن لفقد واحد منا فكيف إذا أتاه الخبر بقتل بنيه كلهم ثم قالوا إن كنت فاعلاً ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين أدركته الرقة عليهم والرحمة فبكى، وقال هذا القول، وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه لم يتمالك أن بكى وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وهذا استفهام يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه وهذا كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ولم يرد بهذا نفس الاستفهام ولكنه أراد تفظيع الأمر وتعظيمه ويجوز أن يكون المعنى هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه.
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى:
{ وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [يوسف: 15] فإن قلت الذي فعلوه بيوسف معلوم ظاهر فما الذي فعلوه بأخيه من المكروه حتى يقول لهم هذه المقالة فإنهم لم يسعوا في حبسه ولا أرادوا ذلك.
قلت: إنهم لما فرقوا بينه وبين أخيه يوسف نغصوا عليه عيشه وكانوا يؤذونه كلما ذكر يوسف، وقيل: إنهم قالوا له لما اتهم بأخذ الصواع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيراً { إذ أنتم جاهلون } هذا يجري مجرى العذر لهم يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين وهو وقت الصبا وحالة الجهل وقيل جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف.