التفاسير

< >
عرض

وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٨
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٩
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٠
شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٢١
وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٢٢
ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٣
-النحل

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ وعلى الذين هادوا } يعني اليهود { حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [الأَنعام: 146] الآية { وما ظلمناهم } يعني بتحريم ذلك عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وقوله تعالى { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك، يعني من بعد عمل ذلك السوء { وأصلحوا } يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة { إن ربك من بعدها } يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه { لغفور } يعني لمن تاب وآمن { رحيم } يعني بجميع المؤمنين والتائبين. قوله سبحانه وتعالى { إن إبراهيم كان أمة } حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به. والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى { فنادته الملائكة } [آل عمران: 39] وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير الأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة. ومنه قول الشاعر:

ليس على الله بمستنكرأن يجمع العالم في واحد

ثم للمفسرين في معنى اللفظة أقوال أحدها: قول ابن مسعود: الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلماً للخير يأتّم به أهل الدنيا. والثاني قال مجاهد: إنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه "قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه الله أمة واحدة" وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. والثالث قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل: الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى { إني جاعلك للناس إماماً } [البقرة: 124] وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله { قانتاً لله } يعني مطيعاً لله وقيل هو القائم بأوامر الله { حنيفاً } مسلماً يعني مقيماً على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول. وهو أول من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج { ولم يك من المشركين } يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره { شاكراً لأنعمه } يعني أنه كان شاكراً لله على أنعمه التي أنعم بها عليه { اجتباه } أي اختاره لنبوته واصطفاه لخلته { وهداه إلى صراط مستقيم } يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم { وآتيناه في الدنيا حسنة } يعني الرسالة والخلة. وقيل: هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل: هو قول المصلي في التشهد: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل إنه آتاه أولاداً أبراراً على الكبر { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل: معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه سلم باتباعه فقال تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم } يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد. قال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله { حنيفاً } مسلماً { وما كان من المشركين } تقدم تفسيره.