التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
١٨٦
-البقرة

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } قال ابن عباس قال يهود المدينة: يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وأن غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه وقيل إنهم سألوه في أي ساعة ندعو ربنا فنزلت. وقيل: إنهم قالوا أين ربنا؟ فنزلت هذه الآية وهذا السؤال لا يخلو إما أن يكون عن ذات الله أو عن صفاته أو عن أفعاله أما السؤال عن ذات الله فهو سؤال عن القرب والبعد بحسب الذات، وأما السؤال عن صفاته تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يسمع ربنا دعاءنا، وأما السؤال عن أفعاله تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يجيب ربنا إذا دعوناه؟ فقوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني } فيحتمل هذه الوجوه كلها، وقوله تعالى { فإني قريب } معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى علي شيء، وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله (ق) عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير، أو قال: توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلاّ الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً وهو معكم" قوله اربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بها وقيل معناه أمسكوا عن الجهر فإنه قريب يسمع دعاءكم. وقوله تعالى: { أجيب دعوة الداع إذا دعان } أي أسمع دعاء عبدي الداعي إذا دعاني وقيل: الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله تعالى كقول العبد: يا الله لا إله إلاّ أنت فقولك يا الله فيه دعاء، وقولك: لا إله إلاّ أنت فيه توحيد وثناء على الله تعالى فسمي هذا دعاء بهذا الاعتبار وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ، وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له رباً ومدبراً يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه وذلك ظاهر فإن العبد إذا دعا، وهو يعلم أن له رباً بإخلاص وتضرع أجاب الله دعوته. فإن قلت: إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب له فما وجه: قوله أجيب دعوة الداع؟ وقوله تعالى: { { ادعوني أستجيب لكم } }. [غافر: 60] قلت ذكر العلماء فيه أجوبة: أحدها أن هذه الآية مطلقة وقد وردت آية أخرى مقيدة وهي قوله: { { بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } [الأنعام: 41] والمطلق يحمل على المقيد. وثانيها أن معنى الدعاء هنا هو الطاعة ومعنى الإجابة هو الثواب وذلك في الآخرة. وثالثها أن معنى الآيتين خاص. وإن كان لفظهما عاماً فيكون معناه أجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له أو أجيبه إذا لم يسأل إثماً أو محالاً. ورابعها أن معناها عام أي أسمع وهو معنى الإجابة المذكورة في الآية، وأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فالإجابة حاصلة عند وجود الدعوة وقد يجيب السيد عبده ولا يعطيه سؤله. وخامسها أن للدعاء آداباً وشرائط وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها وأتى بها كان من أهل الإجابة ومن أخطأها كان من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب والله أعلم. وقوله تعالى { فليستجيبوا لي } يعني إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبتهم إذا دعوني لحوائجهم. والإجابة في اللغة الطاعة. فالإجابة من العبد الطاعة ومن الله الإثابة والعطاء { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } أي لكي يهتدوا إلى مصالح دينهم ودنياهم.
فصل: في فضل الدعاء وآدابه
(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يجب الإيمان به وبأنه حق على ما يليق به ونكل علمه إلى الله تعالى ورسوله وإن ظاهره المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويله مع اعتقادنا تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوقين وعن الانتقال والحركات. والمذهب الثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف أنها تؤول على ما يليق فعلى هذا نقل عن مالك وغيره أن معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته وقيل: إنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وفي الحديث الحث على الدعاء والترغيب فيه عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين" أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب. الصفر الخالي يقال بيت صفر ليس فيه متاع. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلاّ آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر" أخرجه الترمذي. قوله؛ الله أكثر معناه الله أكثر إجابة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي. وله عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" وله عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئاً أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل" وله عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرد القضاء إلاّ الدعاء ولا يزيد في العمر إلاّ البر" وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه" (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله قد دعوت فلم يستجب لي" ولمسلم قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" . قوله يستحسر أي يستنكف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كلَّ وضعف (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له" زاد البخاري "ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له" قوله ليعزم المسألة أي لا تكن في دعائك ربك متردداً بل أعزم وجد في المسألة. عن فضالة بن عبيد قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء" أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح.