التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
١٠١
لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ
١٠٢
لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
١٠٣
يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ
١٠٤
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ
١٠٥
إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ
١٠٦
وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
١٠٧
-الأنبياء

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال العلماء: إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة { أولئك عنها } أي عن النار { مبعدون } قيل: الآية عامة من كل من سبقت لهم من الله السعادة، وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون الله وهو الله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [الأَنبياء: 98] الآيات الثلاث ثم قال فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } يعني عزيراً والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } [الزخرف: 58] وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون الله، ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل { لا يسمعون حسيسها } يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة { وهم فيما اشتهت أنفسهم } أي من النعيم والكرامة { خالدون } أي مقيمون. قوله تعالى: { لا يحزنهم الفزع الأكبر } قال ابن عباس: يعني النفخة الأخيرة، وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه { وتتلقاهم الملائكة } أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } أي في الدنيا. قوله عز وجل { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال ابن عباس: السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر. وقيل: السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل والطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة (ق) عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده" قوله غرلاً أي قلفا.
وقوله تعالى { وعداً علينا إنا كنا فاعلين } يعني الإعادة والبعث بعد الموت. قوله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قيل: الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس: الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقيل الزبور: كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء: أن الجنة يرثها من كان صالحاً من عباده عاملاً بطاعته. وقال ابن عباس: أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها { إن في هذا } أي في القرآن { لبلاغاً } أي وصولاً إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى { لقوم عابدين } يعني مؤمنين لا يعبدون أحداً من دون الله تعالى وقيل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. وقال ابن عباس: عالمين وقيل: هم العالمون العاملون. قوله عز وجل { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قيل: كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق، وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال الله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس: هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن، فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما أنا رحمة مهداة" .