قال: { إني } أي الهدهد { وجدت امرأة تملكهم } هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن، وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيداً فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفرداً، فإذا معه شاب جميل فخاف منه، قال: لا تخاف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: المال لا حاجة لي به. ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث "إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً: فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلاً آخر يقال: إنه ابن أخي الملك وكان خبيثاً سيء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفوء كريم, فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال: بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلاً وقالت اختاروا رجلاً تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكراً وخديعة منها (خ) عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال "لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة" . قوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة { ولها عرش عظيم } أي سرير ضخم عال. فإن قلت: كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان. قلت: يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللاً بالدر، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً, في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً. وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل: كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعاً. قوله عز وجل إخباراً عن الهدهد { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس، وهم مجوس { وزين لهم الشيطان أعمالهم } المزين هو الله لأنه الفعل لما يريد، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء { فصدهم عن السبيل } أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام { فهم لا يهتدون } أي إلى الصواب { ألا يسجدوا } قرىء بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف، وقرىء بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا { لله الذي يخرج الخبء } يعني الخفي المخبأ { في السموات والأرض } قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها، من دون الله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض، عالم بجميع المعلومات { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجود، يستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها. فإن قلت: قد وقف عرش بلقيس بالعظم وعشر الله بالعظم، فما الفرق بينهما. قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه { قال } سليمان { سننظر أصدقت } أي فيما أخبرت { أم كنت من الكاذبين } ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم إن سليمان كتب كتاباً: من عبدالله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ "بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملاً، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } إنما قال: إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جواباً لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم { ثم تول عنهم } أي تنح عنهم فقف قريباً منهم { فانظر ماذا يرجعون } أي يردون من الجواب وقيل: تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فآتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب على حجرها وقال وهب بن منبه: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاؤوا وأخذوا مجالسهم.