التفاسير

< >
عرض

قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٢
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
١٣
-آل عمران

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون } قرئ بالتاء فيهما فمن قرأ بالياء المنقوطة فمعناه بلغهم يا محمد أنهم سيغلبون ويحشرون، ومن قرأ التاء المنقوطة فوق فمعناه قل لهم: ستغلبون وتحشرون { إلى جهنم } قيل: أراد بالذين كفروا مشركي قريش والمعنى قل لكفار مكة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون في الآخرة إلى جهنم فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم " وقيل: إن أبا سفيان جمع جماعة من قومه بعد وقعة بدر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن هذه الآية نزلت في اليهود. وقال ابن عباس: إن يهود المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر، هذا والله النبي الذي بشر به موسى لا ترد له راية وأرادوا إتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا واقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواً وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى مكة ليستفزهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الاية. وقال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله ما أنزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل لكم ما نزل بهم فقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا الله لو قاتلناك لعرفت إنا نحن الناس. فأنزل الله عز وجل { قل للذين كفروا } يعني من اليهود { ستغلبون } أي ستهزمون { وتحشرون } يعني في الآخرة إلى جهنم { وبئس المهاد } أي الفراش والمعنى: بئس ما مهد لهم في النار. قوله عز وجل { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } قيل: الخطاب للمؤمنين يروى ذلك عن ابن مسعود والحسن. وقيل: هو خطاب لكفار مكة فيكون عطفاً على الذي قبله فيخرج على قول ابن عباس (1). وقيل: هو خطاب لليهود قاله ابن جرير. فإن قلت: لم قال قد كان لكم آية ولم يقل قد كانت لأن الآية مؤنثة؟ قلت: كل ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره وقيل: إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ. وقال الفراء: إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه ومعنى الاية قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون في فئتين أي فرقتين وأصلها في الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض أي يرجع { التقتا } يعني يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان وكان معهم من السلاح ستة أذرع وثمانية سيوف. وقوله تعالى: { وأخرى كافرة } أي وفرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة وكان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مائة فرس وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقوله تعالى: { يرونهم مثليهم } قرئ بالتاء يعني ترون أهل مكة ضعفي المسلمين يا معشر اليهود وذلك أن جماعة من اليهود كانوا قد حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة ولمن النصر فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين، ورأوا النصر للمسلمين فكان ذلك معجزة. وقرئ يرونهم بالياء واختلفوا في وجه قراءة الياء فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما: يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم. فإن قلت: كيف قال مثليهم وإنما كانوا ثلاثة أمثالهم. قلت: هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا محتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم ووجه آخر وهو أن يكون الله تعالى أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي يعلم المؤمنون أنهم يغلبونهم لإزالة الخوف من قلوبهم، وهذا التأويل الثاني هو الأصح قلل الله المشركون في أعين المسلمين حتى رأوهم مثليهم. فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى { يرونهم مثليهم } وبين قوله: { وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم } [الأَنفال: 44] وكيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين أو المسلمين استكثروا المشركين، وإن الفئتين تساويا في استقلال إحداهما الأخرى. قلت: إن التقليل والتكثير كانا في حالتين مختلفتين فإن قيل: إن الفئة الرائية هم المسلمون فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه. ثم قلل الله المشركين في أعين المسلمين حتى اجترؤوا عليهم فصبروا على قتالهم بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا فاهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وفي رواية أخرى عنه قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة قال فأسرنا منهم رجلاً فقلنا: كم كنتم قال: ألفاً وإن قلنا إن الفئة الرائية هم المشركون على قول بعضهم إن الرؤية راجعة إلى المشركين يعني رأى المشركون المسلمين مثليهم فقلل الله المسلمين في أعين المشركين في أول القتال ليجترئوا عليهم ولا ينصرفوا، فلما أخذوا في القتال كثر الله المسلمين في أعين المشركين ليجبنوا فيكون ذلك سبب خذلانهم، وقد روي أن المشركين لما أسروا يوم بدر قالوا للمسلمين: كم كنتم قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً قالوا: يعني المشركين ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا فكان في وقعة بدر أحوال في التكثير والتقليل وما ذلك إلاّ إظهاراً للقدرة التامة وقوله تعالى: { رأي العين } أي في رأي العين { والله يؤيد } أي يقوي { بنصره من يشاء إن في ذلك } يعني الذي ذكر من النصرة. وقيل رؤية الجيش مثليهم { لعبرة } أي لآية والعبرة الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى العلم وأصلها من العبور كأنه طريق يعبرونه فيوصلهم إلى مرادهم. وقيل: العبرة هي التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم { لأولي الأبصار } لذوي العقول والبصائر.