التفاسير

< >
عرض

وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
٢
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
-النساء

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله عز وجل: { وآتوا اليتامى أموالهم } نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم كان في حجره فلما بلغ اليتيم طلب المال الذي له فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال: "أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع إلى اليتيم ماله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " يعني جنته فلما قبض الصبي أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثبت الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف ثبت الأجر وبقي الوزر؟ قال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على أبيه" . والخطاب في قوله تعالى { وآتوا } خطاب للأولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو الصبي الذي مات أبوه واليتيم في اللغة الانفراد ومن الدرة اليتيمة لانفرادها واسم اليتيم يقع على الصغير والكبير لغة لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن في العرف اختص اسم اليتيم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال. فإذا بلغ الصبي وصار يستغني بنفسه عن غيره زال عنه اسم اليتم وسئل ابن عباس اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتم؟ قال إذا أونس منه الرشد وإنما سماهم يتامى بعد البلوغ على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال عنهم بالبلوغ وقيل المراد باليتامى الصغار الذين لم يبلغوا والمعنى { وآتوا اليتامى أموالهم } بعد البلوغ وتحقق الرشد وقيل معناه وآتوا اليتامى الصغار ما يحتاجون إليه من نفقة وكسوة والقول الأول هو الصحيح إذا المراد باليتامى البالغون لأنه لا يجوز دفع المال إلى اليتيم إلا بعد البلوغ وتحقق الرشد { ولا تتبدلوا } أي ولا تستبدلوا { الخبيث بالطيب } يعني الخبيث الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة ويجعل مكانها الهزيلة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم فذلك تبديلهم فنهوا عنه وقال عطاء هو الربح في مال اليتيم وهو صغير لا علم له بذلك. وقيل إنه ليس بإبدال حقيقة. وإنما هو أخذه مستهلكاً وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما كان يأخذ الميراث الأكابر من الرجال وقيل هو أكل مال اليتيم عوضاً عن أكل أموالهم فنهوا عن ذلك { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني مع أموالكم وقيل معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق واعلم أن الله تعالى نهى عن أكل مال اليتيم وأراد به جميع التصرفات المهلكة للمال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود { إنه كان حوباً كبيراً } يعني أن أكل مال اليتيم من غير حق إثم عظيم والحوب الإثم. قوله عز وجل: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } يعني وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب (ق) عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ـ إلى قوله ـ أو ملكت أيمانكم } قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل { { ويستفتونك في النساء } [النساء: 127] ـ إلى ـ { وترغبون أن تنكحوهن } [النساء: 127] فبيّن الله لهم هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإن كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكلما يتركونها حين يرغبونها عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيورثها فعاب الله ذلك عليهم وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة في روايته عن ابن عباس كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء أو أكثر فإذا صار معدماً من نساء مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ مال اليتامى وقيل كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا فربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى { وآتوا اليتامى أموالهم } أنزل هذه الآية { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } يقول فكلما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء في الضعف كاليتامى. وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي: ثم رخص الله تعالى في نكاح أربع فقال تعالى: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } يعني ما حل لكم من النساء واستدلت الظاهرية بهذه الآية على وجوب النكاح قالوا لأن قوله فانكحوا أمر والأمر للوجوب. وأجيب عنه بأن قوله تعالى فانكحوا إنما هو بيان لما يحل من العدد في النكاح وتمسك الشافعي في بيان أن النكاح ليس بواجب بقوله { { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح } [النساء: 25] إلى قوله { ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم } [النساء: 25] الآية فحكم في هذه السورة بأن ترك النكاح خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بواجب ولا مندوب وقوله تعالى: { مثنى وثلاث ورباع } معناه اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً وهو غير منصرف لأنه اجتمع فيه أمران: العدل والوصف والواو بمعنى أو في هذا الفصل لأنه لما كانت أو بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة أو. وقيل إن الواو أفادت أنه يجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسماً من هذه الأقسام بحسب حاله فإن قدر على نكاح اثنتين فاثنتان. وإن قدر على ثلاث فثلاث وإن قدر على أربع فأربع إلا أنه يضم عدداً وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة وأن الزيادة على أربع من خصائص رسول الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة وأنها حرام ما روي "عن الحارث بن قيس أو قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اختر منهن أربعاً" . أخرجه أبو داود. عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً. أخرجه الترمذي قال العلماء: فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين وهو قول أكثر العلماء لأنه خطاب لمن ولي وملك وذلك للأحرار دون العبيد. وقال مالك في إحدى الروايتين عنه وربيعة: يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة واستدل بهذه الآية وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار ويدل عليه آخر الآية وهو قوله: { فإن خفتم } ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أو العبد لا يملك شيئاً فثبت بذلك أن المراد من حكم الآية الأحرار دون العبيد. وقوله تعالى: { فإن خفتم } يعني فإن خشيتم وقيل فإن علمتم { ألاّ تعدلوا } يعني بين الأزواج الأربع { فواحدة } يعني فانكحوا واحدة { أو ما ملكت أيمانكم } يعني وما ملكتم من السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن { ذلك أدنى } أي أقرب { أن لا تعولوا } معناه أقرب من أن لا تعولوا فحذف لفظة من لدلالة الكلام عليه ومعنى أن لا تعولوا أي لا تميلوا ولا تجوروا وهو قول أكثر المفسرين لأن أصل العول الميل يقال: عال الميزان إذا مال وقيل معناه لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ومنه عول الفرائض إذا جاوزت سهامها وقيل معناه ذلك أدنى لا تضلوا. وقال الشافعيرحمه الله تعالى معناه أن لا تكثر عيالكم وقد أنكر على الشافعي من ليس له إحاطة بلغة العرب. فقال إنما يقال من كثرة العيال أعال الرجل يعيل إعالة إذا كثر عياله. قال وهذا من خطأ الشافعي لأنه انفرد به ولم يوافقه عليه أحد وإنما قال هذه المقالة من أنكر على الشافعي وخطأه من غير علم له بلغة العرب فقد روى الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله الفصحاء ألا تعولوا أي لا تكثر عيالكم. وروى الأزهري عن الكسائي قال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله قال ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الأزهري وهذا يقوي قول الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يثبت فيما قال ولا ينبغي للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يحفظه من لغات العرب هذا آخر كلام الأزهري. وبسط الإمام فخرالدين الرازي في هذا الموضع من تفسيره ورد على أبي بكر الرازي ثم قال الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة. وحكى البغوي عن أبي حاتم قال كان الشافعي أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء وهو حجة للشافعي.