التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
٢
وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
٣
-الأنعام

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ هو الذي خلقكم من طين } يعني أنه تعالى خلق آدم من طين وإنما خاطب ذريته بذلك لأنه أصلهم وهم من نسله وذلك لما أنكر المشركون البعث وقالوا مَن يحيي العظام وهي رميم أعلمهم بهذه الآية أنه خلقهم من طين وهو القادر على إعادة خلقهم وبعثهم بعد الموت. قال السدي: لما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بقبضة منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فراجع ولم يأخذ منها شيئاً فقال: يا رب عاذت بك فبعث الله ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث الله ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره وأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء؛ فلذا اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم ثم قال الله لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب" أخرجه أبو داود والترمذي وأما قوله تعالى: { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } فاختلف العلماء في معنى ذلك فقال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول، من وقت الولادة إلى وقت الموت. والأجل الثاني: من وقت الموت إلى البعث، وهو البرزخ.
ويروى نحو ذلك عن ابن عباس قال: لكل أحد أجلان: أجل إلى الموت، وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر، وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله:
{ وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } [فاطر: 11] وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأجل الأول أجل الدنيا، والأجل الثاني أجل الآخرة. وقيل: الأجل هو الوقت المقدر فأجل كل إنسان مقدر معلوم عند الله لا يزيد ولا ينقص.
والأجل الثاني: هو أجل القيامة وهو أيضاً معلوم مقدر عند الله لا يعلمه إلا الله تعالى وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه ثم قضى أجلاً يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند الانتباه وأجل مسمى عنده هو أجل الموت وقيل هما واحد ومعناه ثم قضى أجلاً يعني قدَّر مدة لأعماركم تنتهون إليها وهو أجل مسمى عنده يعني أن ذلك الأجل عنده لا يعلمه إلا هو والمراد بقوله عنده يعني في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره { ثم أنتم تمترون } يعني ثم أنتم تشكون في البعث.
قوله عز وجل: { وهو الله في السموات وفي الأرض } يعني وهو إله السموات وإله الأرض. وقيل: معناه وهو المعبود في السموات وفي الأرض. وقال محمد بن جرير الطبري: معناه وهو الله في السموات { يعلم سركم وجهركم } في الأرض. وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وقيل: معناه وهو المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض لا شريك له فيهما. والمراد بالسر، ما يخفيه الإنسان في ضميره فهو من أعمال القلوب وبالجهر وما يظهر الإنسان فهو من أعمال الجوارح والمعنى: أن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض { ويعلم ما تكسبون } يعني من خير أو شر، بقي في الآية سؤال وهو أن الكسب إما أن يكون من أعمال القلوب وهو المسمى بالسر أو من أعمال الجوارح وهو المسمى بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء على نفسه وذلك غير جائز فما معنى ذلك وأجيب عنه بأنه يجب حمل قوله ويعلم ما تكسبون على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب والحاصل فيه أنه محمول على المكتسب فهو كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه ذكره الإمام فخر الدين.