التفاسير

< >
عرض

لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
-الجن

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ لنفتنهم فيه } وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى: { وأن لو استقاموا } يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين { لأسقيناهم ماء غدقاً } [الجن: 16] يعني كثيراً وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين.
والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيراً وعيشاً رغداً. وإنما ذكر الماء الغدق مثلاً لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله "لنفتنهم فيه" أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه. وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالاً كثيراً ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجاً لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم والقول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر { ومن يعرض عن ذكر ربه } أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه { يسلكه } أي يدخله { عذاباً صعداً }، قال ابن عباس شاقاً وقيل عذاباً لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة.
قوله تعالى: { وأن المساجد لله } يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة، وذكر الله تعالى فيدخل فيه مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى { فلا تدعوا مع الله أحداً } قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها. وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجداً للنبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير الله تعالى، قال سعيد بن جبير "قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد لله" وروي عنه أيضاً أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره، (م) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول
"إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه" الآراب الأعضاء، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والقدمين" وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر" كف شعره عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة وقد نهي عن ذلك.
قوله عز وجل: { وأنه لما قام عبد الله } يعني النبي صلى الله عليه وسلم { يدعوه } يعني يعبد الله ويقرأ القرآن وذلك حين كان يصلي الفجر ببطن نخلة { كادوا } يعني الجن { يكونون عليه لبداً } يعني يركب بعضهم بعضاً من الازدحام عليه حرصاً على استماع القرآن، قاله ابن عباس. وعنه أيضاً أنه من قول النفر من الجن الذين رجعوا إلى قومهم فأخبروهم عن طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له واقتدائهم به في الصلاة. وقيل في معنى الآية لما قدم عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره ويظهر هذا الأمر وينصره على من ناوأه وعاداه. وأصل اللبد الجماعة بعضهم فوق بعض.