التفاسير

< >
عرض

وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١١٨
يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ
١١٩
مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٢٠
-التوبة

لباب التأويل في معاني التنزيل

قوله سبحانه وتعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } هذا معطوف على ما قبله تقديره لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا وفائدة هذا العطف بين قبول توبتهم وهم كعب ابن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وهم المرادون بقوله سبحانه وتعالى وآخرون مرجون لأمر الله وفي معنى خلفوا قولان: أحدهما أنهم خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وذلك أنهم لم يخضعوا كما خضع أبو لبابة وأصحابه فتاب الله على أبي لبابة وأصحابه وأخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب عليهم بعد ذلك والقول الثاني أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يخرجوا مع رسول الله فيها وأما حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، فقد روي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب بن بنيه حين عمي قال: وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت كعب بن مالك بن عبد الله بن مالك بن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توائقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حتى تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حين جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً واستقبل عدواً كثيراً فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفي له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حيت طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً مما عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك" فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو كذلك، رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فإذ هو أبو خيثمة وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثى فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غداً واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً وكان إذا قدم من سفره بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال لي "تعالى" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال "ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك" قال قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، وفي رواية عفو الله عز وجل، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أوقى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك" فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد معي قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدراً ففيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال: فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريباً منه وأسارقة النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل عليّ كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال: فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خدام فهل تكره أن أخدمه قال "لا ولكن لا يقربنك" فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا. قال ثم صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجداً وعرفت أنه قد جاء فرج قال وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرساً وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقال إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلا رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: "لا بل من عند الله" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرَّ استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك منه قال فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول الله إن الله إن أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت قال فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله، والله ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عز وجل لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ أنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب: والله ما أنعم الله عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله سبحانه وتعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه فبذلك قال الله عز وجل: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه وفي رواية ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر فما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي ولا يسلم علي قال: وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة. وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره قال: إذا يحطمكم الناغس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا" أخرجه البخاري ومسلم. (شرح غريب هذا الحديث)..
قوله حين تواثقنا على الإسلام: التواثق تفاعل من الميثاق وهو العهد. والراحلة: الجمل أو الناقة القويان على الحمل والسفر. وقوله: ورى بغيرها يقال: ورى عن الشيء إذا أخفاه وأظهر غيره. والمفازة: البرية القفراء سميت بذلك تفاؤلاً بالفوز والنجاة منها قوله فجلا هو بالتخفيف يعني كشف لهم مقصدهم وأظهره لهم والأهبة الجهاز وما يحتاج إليه المسافر قوله فأنا إليها صعر هو بالعين المهملة أي أميل والصعر الميل. قوله: وتفارط الغزو أي تباعد ما بيني وبين الجيش من المسافة وطفق مثل جعل والمغموص المعيب المشار إليه بالعيب. يقال: فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجباً بنفسه. ويقال: زال به السراب يزول إذا ظهر شخص الإنسان خيالاً فيه من بعد. والسراب: هو ما يظهر للإنسان في البرية في وقت الهاجرة كأنه ماء والمبيض بكسر الياء لابس البياض. قوله: كن أبا خيثمة معناه أنت أبو خيثمة وقيل معناه: اللهم اجعله أبا خيثمة أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قوله الذي لمزه المنافقون يعني عابوه واحتقروه والقافل الراجع من سفره إلى وطنه قوله حضرني بثني البث أشد الحزن كأنه لشدته يظهر قوله زاح عني الباطل أي زال وذهب عني وأجمعت صدقه أي عزمت عليه لقد أعطيت جدلاً أي فصاحة وقوة في الكلام بحيث أخرج عن عهدة ما أردت بما أشاء من الكلام والمغضب بفتح الضاد هو الغضبان قوله بما زالوا يؤنبونني أي يلومونني أشد اللوم قوله حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي أعرف: معناه تغير علي كل شيء من الأرض وتوحشت عليّ وصارت كأنها أرض لا أعرفها وقوله فأما صاحباي فاستكانا يعني خضعا وسكنا قوله تسورت حائط أبي قتادة أي علوته وصعدت سوره وهو أعلاه والأنباط الفلاحون والزراعون وهم من العجم والروم والمضيعة مفعلة من الضياع والأطراح، وقوله فتيممت بها التنور فسجرته بها أي فقصدت بالصحيفة التي أرسل بها ملك غسان فأحرقتها في التنور وسلع جبل بالمدينة معروفة وقوله وانطلقت أتأمم يعني أقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفوج: الجماعة من الناس. يقال: برق وجهه إذا لمع وظهر عليه أمارات الفرح والسرور قوله أنخلع من مالي أي أخرج منه جميعه وأتصدق به كما يخلع الإنسان قميصه. قوله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني البلاء. والابتلاء: يكون في الخير وفي الشر وإذا أطلق كان في الشر غالباً فإذا أريد به الخير قيد به كما قيد هنا بقوله أحسن مما أبلاني أن أنعم على قوله أن لا أكون كذبته، هذا هو في جميع روايات الحديث بزيادة لفظ لا قال بعض العلماء لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته وقوله فأهلك هو بكسر اللام وإرجاؤه أمرنا تأخيره وقوله في الرواية الأخرى يحطمكم الناس أي يطؤكم ويزدحمون عليكم وأصل الوطء الكسر وقوله سائر الليل يعني باقي الليل وقوله وآذن بتوبة الله علينا أي أعلم والأذان الإعلام والله أعلم.
قوله عز وجل: { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } يعني بما اتسعت والرحب سعة المكان والمعنى أنه ضاق عليهم المكان بعد أن كان واسعاً { وضاقت عليهم أنفسهم } يعني من شدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم { وظنوا } يعني وأيقنوا وعلموا { أن لا ملجأ } يعني لا مفزع ولا مفر { من الله إلا إليه } ولا عاصم من عذابه إلا هو { ثم تاب عليهم } فيه إضمار وحذف تقديره وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فرحمهم ثم تاب عليهم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه وقوله ثم تاب عليهم تأكيد لقبول تبوتهم لأنه قد ذكر توبتهم في قوله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } كما تقدم بيانه وأنه عطف على قوله
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } [التوبة: 117] أي وتاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار أي وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا.
وقوله تعالى: { ليتوبوا } معناه: أن الله سبحانه وتعالى تاب عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل فيرجعوا ويداوموا عليها وقيل إن أصل التوبة الرجوع ومعناه ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالتهم الأولى يعني إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك { إن الله هو التواب } يعني على عباده { الرحيم } بهم وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والفضل والإحسان وأنه لا يجب على الله تعالى شيء.
قوله عز وجل:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } يعني في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم { وكونوا مع الصادقين } يعني مع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو. وقال سعيد بن جبير: مع الصادقين يعني مع أبي بكر وعمر. قال ابن جريج: مع المهاجرين. وقال ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية. وقيل: كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب وهم يعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق لأن الصدق يهدي إلى الجنة والكذب إلى الفجور كما ورد في الحديث. وقال ابن مسعود: الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صاحبه شيئاً ثم لا ينجزه اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.
وروي أن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة وذلك أن الأنصار قالوا: منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر: يا معشر الأنصار إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار: أنتم هم فقال أبو بكر: إن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء وقيل مع بمعنى من والمعنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين قوله سبحانه وتعالى: { ما كان لأهل المدينة } يعني لساكني المدينة من المهاجرين والأنصار: { ومن حولهم من الأعراب } يعني سكان البوادي من مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وقيل: هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى { أن يتخلفوا عن رسول الله } يعني إذا غزا وهذا ظاهر خبر ومعناه النهي أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولا يرغبوا } يعني ولا أن يرغبوا { بأنفسهم عن نفسه } يعني ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضاه لنفسه ولا يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ويتركوا مصاحبته والجهاد معه في حال الشدة والمشقة وقال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب { ذلك بأنهم لا يصيبهم } في سفرهم وغزواتهم { ظمأ } أي عطش { ولا نصب } أي تعب { ولا مخمصة } يعني مجاعة شديدة { في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار } يعني ولا يضعون قدماً على الأرض يكون ذلك القدم سبباً لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم { ولا ينالون من عدو نيلاً } يعني أسراً أو قتلاً أو هزيمة أو غنيمة أو نحو ذلك قليلاً كان أو كثيراً { إلا كتب لهم به عمل صالح } يعني إلا كتب الله لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يدع محسناً من خلقه قد أحسن في عمله وأطاعه فيما أمره به أو نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه وعمله الصالح في الآية دليل على أن من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئآت إلا أن يغفرها الله بفضله وكرمه واختلف العلماء في حكم هذه الآية. فقال قتادة: هذا الحكم خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف عنه إذا لم يكن للمسلمين إليه ضرورة. وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيداً يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها فعلى هذا تكون هذه الآية محكمة لم تنسخ. وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلاً فلما كثروا نسخها الله عز وجل وأباح التخلف لمن شاء بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة ونقل الواحدي عن عطية أنه قال: وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم وأمرهم. وقال: هذا هو الصحيح لأنه لا تتعين الطاعة والإجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا أمر وكذا غيره من الأئمة والولاة قالوا إذا ندبوا أوعينوا لأنّ لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد ولم يختص بذلك بعض دون بعض لأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد والله أعلم.