التفاسير

< >
عرض

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
٧٧
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٩
-التوبة

لباب التأويل في معاني التنزيل

{ فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم } يعني فأعقبهم الله نفاقاً بأن صيرهم منافقين يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صارت عاقبة أمره إلى ذلك وقيل معناه أنه سبحانه وتعالى عاقبهم بنفاق قلوبهم { إلى يوم يلقونه } يعني أنه سبحانه وتعالى حرمهم التوبة إلى يوم القيامة فيوافونه على النفاق فيجازيهم عليه { بما أخلفوا الله ما وعدوه } يعني الصدقة والإنفاق في سبيله { وبما كانوا يكذبون } يعني في قولهم لنصدقن ولنكونن من الصالحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان" عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة وفي رواية خصلة منهن كان فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر " قال الشيخ محيي الدين النووي: هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق مخلد في النار فإن أخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال وكذا قد يوجد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذا أو كله. قال الشيخ: هذا ليس بحمد الله إشكالاً ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في هذه الخصال ويتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا موجود في صاحب هذه الخصال فيكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى الله عليه وسلم كان منافقاً خالصاً معناه كان شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من ندر ذلك منه فليس ذلك حاصلاً فيه هذا هو المختار في معنى الحديث.
وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخافوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئتمنا. وحكى الخطابي قولاً آخر: إن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال وحكى أيضاً عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقولا فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما بال أقوام يفعلون كذا" والله أعلم. وقال الإمام فخر الدين الرازي: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
وقوله سبحانه وتعالى: { ألم يعلموا } يعني هؤلاء المنافقين { أن الله يعلم سرهم } يعني ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق { ونجواهم } يعني ويعلم ما يفاوض به بعضهم بعضاً فيما بينهم والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم والمعنى أنهم يعلمون أن الله يعلم جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها { وأن الله علام الغيوب } وهذا مبالغاً في العلم يعني أن الله عالم بجميع الأشياء فكيف تخفى عليه أحوالهم.
قوله عز وجل: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } الآية (ق) عن أبي مسعود البدري قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت" فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثرة في الصدقات فلمزهم المنافقون. فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بواجب عليه { والذين لا يجدون إلا جهدهم } يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وقيل: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة { فيسخرون منهم } يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو قولهم لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنياً وكان يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون: إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند الله من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به وقوله سبحانه وتعالى: { سخر الله منهم } يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو قوله تعالى: { ولهم عذاب أليم } يعني في الآخرة.