التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
-يونس

البحر المحيط

القدم: قال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة. قال ذو الرمة:

وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر

وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر فهو قدم. وقال الأخفش: سابقة إخلاص كما في قول حسان:

لنا القدم العليا إليك وخلفنا لا ولنا في طاعة الله تابع

وقال أحمد بن يحيـى: كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.

{ الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين }: هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، فإنها نزلت بالمدينة، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة. وقال قوم: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، ونزل باقيها بالمدينة. وقال الحسن وعطاء وجابر: هي مكية وسبب نزولها: أنّ أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت. وقال ابن جريج: عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت. وقيل: لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا.

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل { وإذا ما أنزلت سورة } [التوبة: 124] وذكر تكذيب المنافقين ثم قال: { لقد جاءكم رسول } [التوبة: 128] وهو محمد صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها: أنا الله أرى، ومنها أنا الله الرحمن، ومنها أنه يتركب منها ومن حم ومن نون الرحمن. فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة، ومنها أنا الرب وغير ذلك. والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه. فقال مجاهد وقتادة: أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب. وقال الزجاج: إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها. وقيل: إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله، ومنه نسخ كل كتاب كما قال: { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } [البروج: 21 - 22] وقال: { وإنه في أم الكتاب } [الزخرف: 4] وقيل: إشارة إلى الراء وأخواتها من حروف المعجم، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال. وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري. وقيل: استعمل تلك بمعنى هذه، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس، واختاره أبو عبيدة. فقيل: آيات القرآن. وقيل: آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله: { وإذا ما أنزلت سورة } [التوبة: 124] وقيل: المشار إليه هو الراء، فإنها كنوز القرآن، وبها العلوم التي استأثر الله بها. وقيل: إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة.

والحكيم: الحاكم، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها. وتعلقه بها، أو المحكم، أو المحكوم به، أو المحكم أقوال. والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير، أي: لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم. واسم كان أن أوحينا، وعجباً الخبر، وللناس فقيل: هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدَّم كان حالاً. وقيل: يتعلق بقوله: عجباً وليس مصدراً، بل هو بمعنى معجب. والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعنى للناس. وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله: عجب، فقيل: عجب اسم كان، وأنْ أوحينا هو الخبر، فيكون نظير: يكون مزاجها عسل وماء، وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية. وقيل: كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا، وهذا التوجيه حسن. ومعنى للناس عجباً: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وقرأ رؤبة: إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد. ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا، والبشارة خاصة، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا. وأن أنذر: أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشري: ويجوز أنْ تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع، لا المخففة من الثقيلة لأنّها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر، وينسبك منها معه مصدر تقديره: بإنذار الناس. وهذا الوجه أولى من التفسيرية، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية. ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر، ولأنّ التأصيل خير من دعوى الحذف بالتحفيف. وبشر الذين آمنوا أن لهم أي: بأن لهم، وحذفت الباء. وقدم صدق قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وابن زيد: هي الأعمال الصالحة من العبادات. وقال الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال زيد بن أسلم وغيره: هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. وقال مقاتل: سابقة خير عند الله قدموها. وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله:

مالك وضاح دائم الغزل ألست تخشى تقارب الأجل
صل لذي العرش واتخذ قدماً ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضاً: سلف صدق. وقال عطاء: مقام صدق. وقال يمان: إيمان صدق. وقال الحسن أيضاً: ولد صالح قدموه. وقيل: تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة، كما قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقيل: تقدم شرف، ومنه قول العجاج:

ذل بني العوام من آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج: درجة عالية وعنه منزلة رفيعة. ومنه قول ذي الرمة:

لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري: قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان: قدم في الخير، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة. وقال ابن عطية: والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول: رجل صدق. وعن الأوزاعي: قدم بكسر القاف تسمية بالمصدر قال: الكافرون. ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره: فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا. قال ابن عطية: قال الكافرون: يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله: أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا.

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع: لسحر إشارة إلى الوحي، وباقي السبعة، وابن مسعود، وأبو رزين، ومسروق، وابن جبير، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وابن محيصن، وابن كثير، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر. وقرأ الأعمش أيضاً: ما هذا إلا ساحر. قال ابن عطية: وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم، وحال بين القريب وقريبه، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري: وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً. ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد، لم يحتج قولهم إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال: فرعون وقومه في موسى عليه السلام: { { إن هذا لساحر عليم } [الأعراف: 109] { { قالوا سِحْرَانِ تظاهران } [القصص: 48] وقوم عيسى عليه السلام: { إن هذا إلا سحر مبين } [المائدة: 110] ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد.