التفاسير

< >
عرض

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ
١
إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ
٢
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ
٣
ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
٤
-قريش

البحر المحيط

وقرأ الجمهور: { لإيلاف قريش }، مصدر آلف رباعياً؛ وابن عامر: لالاف على وزن فعال، مصدر ألف ثلاثياً. يقال: ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً، وآلفه غيره إياه إيلافاً، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف، قال الشاعر:

من المؤلفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في متنها يتوضح

ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي. وروي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، وهذا شاذ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم: إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية، وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري: لإلف قريش؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم. قال الشاعر:

زعمتم أن إخوتكم قريشاً لهم إلف وليس لكم إلاف

جمع بين مصدري ألف الثلاثي. وعن أبي جعفر وابن عامر: إلا فهم على وزن فعال. وعن أبي جعفر وابن كثير: إلفهم على وزن فعل، وبذلك قرأ عكرمة. وعن أبي جعفر أيضاً: ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس. وعن عكرمة: ليألف قريش؛ وعنه أيضاً: لتألف قريش على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان: بفتح لام الأمر، وأجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية. قال الشاعر:

وكفـى قـريش المعضـلات وسـادهـا

جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف، وكينونة هذه للإحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن. وقرأ الجمهور: { رحلة } بكسر الراء؛ وأبو السمال: بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التي يرحل إليها، والجمهور على أنهما رحلتان. فقيل: إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح، ومنه قول الشاعر:

سفرين بينهما له ولغيره سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقال ابن عباس: رحلة إلى اليمن، ورحلة إلى بصرى. وقال: يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم. وقال الزمخشري: وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص

انتهى، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة، ومثله:

حمـامـة بطـن الـوادييـن تـرنمي

يريد: بطني الواديين، أنشده أصحابنا على الضرورة. وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل. قال ابن عطية: وهذا قول مردود. انتهى، ولا ينبغي أن يرد، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم: بنو عبد مناف هاشم، كان يؤلف ملك الشام، أخذ منه خيلاً، فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة؛ والمطلب إلى اليمن؛ ونوفل إلى فارس. فكان هؤلاء يسمون المجيرين، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم:

يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائش والقائلون هلمّ للأضياف
والخالطون غنيهم لفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكاف

فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر، وإيلافهم بدل من { لإيلاف قريش }، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به، وهو رحلة، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً بعظيم النعمة فيه. { هذا البيت }: هو الكعبة، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها، ومن هنا للتعليل، أي لأجل الجوع. كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: { { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [القصص: 57] { وآمنهم من خوف }: فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا، فيقال: هؤلاء قطان بيت الله، فلا يتعرض إليهم أحد، وغيرهم خائفون. وقال ابن عباس والضحاك: { وآمنهم من خوف }: معناه من الجذام، فلا ترى بمكة مجذوماً. قال الزمخشري: والتنكير في جوع وخوف لشدتهما، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقرأ الجمهور: { من خوف }، بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع: بإخفائها، وكذلك مع العين، نحو من على، وهي لغة حكاها سيبويه. وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً:

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق غداة أبي مكسوم هادي الكتائب
كثيبة بالسهل تمشي ورحلة على العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم جنود المليك بين ساق وحاجب
فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب إلى أهله ملجيش غير عصائب