التفاسير

< >
عرض

وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
٥١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
٥٢
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
٥٣
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
٥٤
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ
٥٥
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ
٥٦
-الحجر

البحر المحيط

القنوط: أتم اليأس، يقال: قنط يقنط بفتحها، وقنط بفتح النون يقنط بكسرها وبضمها.

{ ونبئهم عن ضيف إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } ولما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار، وللطائعين من الجنة، ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ليزدجروا عن كفرهم، وليعتبروا بما حل بغيرهم. فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم عليه السلام، وما جرى لقوم ابن أخيه لوط، ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. وقرأ أبو حيوة: ونبيهم بإبدال الهمزة ياء. وضيف ابراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وأضيفوا إلى ابراهيم وإن لم يكونوا أضيافاً، لأنهم في صورة من كان ينزل به من الأضياف، إذ كان لا ينزل به أحد إلى ضافه، وكان يكنى أبا الضيفان. وكان لقصره أربعة أبواب، من كل جهة باب، لئلا يفوته أحد. والضيف أصله المصدر، والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع للمثنى والمجموع، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير: أصحاب ضيف. وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا، فليس منصوباً به، والتقدير: سلمت سلاماً من السلامة، أو سلمنا سلاماً من التحية. وقيل: سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره: فقالوا قولاً سلاماً، وتصريحه هنا بأنه وجل منهم، كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ، وامتناعهم من الأكل وفي هو ذاته أوجس في نفسه خيفة، فيكمن أنّ هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة. ويحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.

وقرأ الجمهور: لا توجل مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن: بضم التاء مبنياً للمفعول من الإيجال. وقرىء: لا تاجل بإبدال الواو ألفاً كما قالوا: تابة في توبة. وقرىء: لا تواجل من واجله بمعنى أوجله. إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، أي: إنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. والمبشر به هو إسحاق، وذلك بعد أنْ ولد له إسماعيل وشب بشروه بأمرين: أحدهما: أنه ذكر. والثاني: وصفه بالعلم على سبيل المبالغة. فقيل: النبوة كقوله تعالى: { { وبشرناه بإسحاق نبياً } [الصافات: 112] وقيل: عليم بالدين.

وقرأ الأعرج: بشرتموني بغير همزة الاستفهام، وعلى أنّ مسني الكبر في موضع الحال. وقرأ ابن محيصن: الكبر بضم الكاف وسكون الباء، واستنكر إبراهيم عليه السلام أنْ يولد له مع الكبر. وفبم تبشرون، تأكيد استبعاد وتعجب، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه، فلذلك استفهم، واستنكر أن يولد له. ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر، ولا سيما وقد رأى من آيات الله عياناً كيف أحيا الموتى. قال الزمخشري: كأنه قال: فبأيّ أعجوبة تبشروني، أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني: لا تبشروني في الحقيقة بشيء، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا تكون صلة لبشر، ويكون سؤالاً على الوجه والطريقة يعني: بأي طريقة تبشرونني بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة انتهى. وكأنه قال: أعلى وصفي بالكبر، أم على أني أرد إلى الشباب؟ وقيل: لما استطاب البشارة أعاد السؤال، ويضعف هذا قولهم له: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. وقرأ الحسن: تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. وابن كثير: بشدها مكسورة دون ياء. ونافع يكسرها مخففة، وغلّطه أبو حاتم وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقالوا هو مثل قوله:

يسوء القاليات إذا قليني

وقول الآخر:

لا أباك تخوفيني

وقرأ باقي السبعة: بفتح وهي علامة الرفع. قال الحسن: فبم تبشرون على وجه الاحتقار وقلة المبالاة بالمبشرات لمضي العمر واستيلاء الكبر. وقال مجاهد: عجب من كبره وكبر امرأته، وتقدم ذكر سنة وقت البشارة. وبالحق أي باليقين الذي لا لبس فيه، أو بالطريقة التي هي حق، وهي قول الله ووعده وأنه قادر على أنْ يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ، وعجوز عاقر. وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ورويت عن أبي عمرو: من القنطين، من قنط يقنط. وقرأ النحويان والأعمش: ومن يقنط، وفي الروم والزمر بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي والأشهب بضمها. وهو استفهام في ضمنه النفي، ولذلك دخلت إلا في قوله: إلا الضالون وقولهم له: فلا تكن من القانطين نهي، والنهي عن الشيء لا يدل على تلبس المنهى عنه به ولا بمقارنته. وقوله: ومن يقنط ردّ عليهم، وأن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط، بل ذلك على سبيل الاستبعاد لما جرت به العادة. وفي ذلك إشارة إلى أنّ هبة الولد على الكبر من رحمة الله، إذ يشد عضد والده به ويؤازره حالة كونه لا يستقل ويرث منه علمه ودينه.