التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
-النحل

البحر المحيط

وصب الشيء دام، قال أبو الأسود الدؤلي:

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوماً بذمّ الدهر أجمع واصبا

وقال حسان:

غيرته الريح يسفى به وهزيم رعده واصب

والعليل وصيب، لكنّ المرض لازم له. وقيل: الوصب التعب، وصب الشيء شق، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. والجواز: رفع الصوت بالدعاء، وقال الأعشى يصف راهباً:

يداوم من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إلـه واحد فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بمآ آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }: لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك. نهى أن يشرك به، ودل النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة. ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو: نعم الرجل زيد، ونعم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر:

فإن النار بالعودين تذكي وأن الحرب أولها الكلام

أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلۤهين اثنين، وقيل: إلۤه واحد، وقال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص. فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم. والذي يساق به الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك إذا قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل: أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية انتهى. والظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد. وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجود ذكرت في علم أصول الدين. ولما نهى عن اتخاذ الإلهين، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال: { { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163] بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة. ثم أمرهم بأنْ يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا. وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: { { إياك نعبد } [الفاتحة: 5] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:

إليك حين بلغت إياكا

ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى: أنّ له ما في السموات والأرض، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجوداً بإيجاده وخلقه، وأخبر أنّ له الدين واصباً.

قال مجاهد: الدين الإخلاص. وقال ابن جبير: العبادة. وقال عكرمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الحدود والفرائض. وقال الزمخشري وابن عطية: الطاعة، زاد ابن عطية: والملك. وأنشد:

في ديـن عمرو وحـالت بيننا فـدك

أي: في طاعته وملكه. وقال الزمخشري: أوله الحداد أي: دائماً ثابتاً سرمداً لا يزول، يعني الثواب والعقاب. وقال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري: واصباً دائماً. قال الزمخشري: والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب، وهو على معنى النسب أي: ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتناً، أي ذا فتون. قال الزمخشري: أو وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفاً انتهى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين، وإن كان فيه الوصب. والوصب: شدّة التعب. وقال الربيع بن أنس: واصباً خالصاً. قال ابن عطية: والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله: إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى. ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي: إنما هي إله واحد، فيكون من عطف الجمل. وانتصب واصباً على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور. أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي: بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه؟ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية. ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى: { { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34] وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي: وما استقر بكم، ومن نعمة تفسير لما، والخبر فمن الله أي: فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد. وأجاز الفرّاء والحوفي: أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط. قال الفراء: التقدير. وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيف جداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوّة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله، نحو قوله:

فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعل مفرقك الحسام

أي: وإلا تطلقها، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله:

قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيراً معدماً قالت وإن

أي: وإن كان فقيراً معدماً، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال مخصوصاً بالضرورة نحو قوله: أينما الريح تميلها تمل. التقدير: أينما تميلها الريح تميلها تمل. ولما ذكر تعالى أنّ جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده، حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه، وهي حالة الضر والضر، يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغير ذلك. وقرأ الزهري: تجرون بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة. وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها. ومنكم: خطاب للذين خوطبوا بقوله: وما بكم من نعمة، إذ بكم خطاب عام. والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أنّ آلهتهم تنفع وتضر وتشقى. وعن ابن عباس: المنافقون. وعن ابن السائب: الكفار. ومنكم في موضع الصفة، ومِنْ للتبعيض، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال: كأنه قال فإذا فريق كافر وهم أنتم. قال: ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله: { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } [لقمان: 32] انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى: أنّ إشراكهم بالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآن المنزل إليهم. وإن كانت للصيرورة فالمعنى: صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلك الجؤار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به. وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد. وقال الزمخشري: ليكفروا فتمتعوا، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر انتهى. ولم يخل كلامه من ألفاظ المعتزلة، وهي قوله: في معنى الخذلان والتخلية. وقرأ أبو العالية: فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنياً للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروا منصوباً، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً، وأن للنصب إن كان جواب الأمر. وعنه: فسوف يعلمون بالياء على الغيبة، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والتمتع هنا هو بالحياة الدنيا ومآلها إلى الزوال.