التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٨٠
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
٨١
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٨٢
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٣
-النحل

البحر المحيط

الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، والظعن الهودج أيضاً. الصوف للضأن، والوبر للإبل، والشعر للمعز، قاله أهل اللغة في قوله: ومن أصوافها الآية. الأثاث: قال المفضل متاع البيت كالفرش والأكسية، وقال الفراء: لا واحد له من لفظه، كما أنّ المتاع لا واحد له من لفظه، ولو جمعت لقلت: أأثثة في القليل، وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحده أثاثه، وقال الخليل: أصله من قولهم أثث النبات والشعر، فهو أثيث إذا كثر. قال امرؤ القيس:

وفرع يزين المتن أسود فاحمأثيت كقنو النخلة المتعثكل

الكن ما حفظ، ومنع من الريح والمطر وغير ذلك، ومن الجبال الغار.

{ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون }: لما ذكر تعالى ما منَّ به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. والسكن فعل بمعنى مفعول، كالقنص، والنفص. وأنشد الفراء:

جاء الشتاء ولما أتخذ سكناً يا ويح نفسي من حفر القراميص

وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية، وكأنه تعالى ذكر أولاً ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل، بل ينتقل الناس إليها. ثم ذكر ثانياً ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم، أو ذكر أولاً البيوت على طريق العموم، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصاً تنبيهاً على حال أكثر العرب، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر، وبيوت الصوف والوبر. وقال ابن سلام: تندرج لأنها ثابتة فيها، فهي منها. ومعنى تستخفونها: تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل. يوم ظعنكم: يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي: مدة النجعة والإقامة. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: ظعنكم بفتح العين، وباقي السبعة بسكونها، وهما لغتان. وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والشعر لمكان حرف الخلق، والظاهر أنّ أثاثاً مفعول، والتقدير: وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً. وقيل: أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى: جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام، كما تقول: جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور، ومنصوباً على منصوب كما تقول: ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر. والمتاع: ما يتمتع به أي: ينتفع به. وقال ابن عباس: الزينة. وقال المفضل: المتجر والمعاش. وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله: وألفى قولها كذباً وميناً. وغياً؛ تعالى ذلك بقوله: إلى حين، فقال ابن عباس: إلى الموت. وقال مقاتل: إلى بلى ذلك الشيء. وقيل: إلى انقضاء حاجتكم منه. ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره، وكانت بلادهم غالباً عليها الحر، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس. وقال ابن عباس ومجاهد: ظلال الغمام. وقال ابن السائب: ظلال البيوت. وقال قتادة، والزجاج: ظلال الشجر. وقال ابن قتيبة: ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران، والكهوف، والبيوت المنحوتة منها. والسربال ما لبس على البدن من: قميص، وقرقل، ومجول، ودرع، وجوشن، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها. واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر. وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط، قاله عطاء الخراساني. وهذا في بلاد الحجاز، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم:

إذا القشـع مـن بـرد الشتـاء تقعقعـا

وقال آخر:

في ليلـة مـن جمادى ذات أنديـة

والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع. قال كعب بن زهير:

شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

والسربال عام، يقع على ما كان من حديد وغيره. والبأس في أصل اللغة الشدة، وهنا الحرب. وفي الحديث: «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم»والمعنى: تقيكم أذى الحرب وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف، والدبوس، والرمح، والسهم، وغير ذلك مما يعد للحديث. كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق، يتم نعمته في المستقبل. وقرأ ابن عباس: تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع، أسند التمام إليها اتساعاً، وعنه نعمه جمعاً. وقرأ: لعلكم تسلمون بفتح التاء، واللام من السلامة والخلاص، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب، أو تسلمون من الشرك. وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى: تؤمنون، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد. روي أن أعرابياً سمع قوله تعالى: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً إلى آخر الآيتين فقال: عند كل نعمة اللهم نعم، فلما سمع: لعلكم تسلمون، قال: اللهم هذا فلا، فنزلت.

فإن تولوا، يحتمل أن يكون ماضياً أي: فإن أعرضوا عن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعاً أي: فإن تتولوا، وحذفت التاء، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة، والجواب حقيقة محذوف أي: فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه. وقال ابن عطية: المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى. ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها، وأنها منه تعالى، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله، وجعل ذلك إنكاراً على سبيل المجاز، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء، قال قريباً من هذا المعنى مجاهد. وقال السدّي: النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته، وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري. وعن مجاهد أيضاً: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وعن ابن عون: إضافتها إلى الأسباب لا إلى مسببها، وحكى صاحب الغنيان: يعرفونها في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقيل: إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله. وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. والظاهر أنّ المراد مِن وأكثرهم موضوعه الأصلي. وقال الحسن: وكلهم: ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر، فجعله من كفران النعمة. وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان. وقيل: أكثر أهل مكة، لأنّ منهم من أبى. وقيل: معنى الكافرون الجاحدون المعاندون، لأنّ فيهم من كان جاهلاً لم يعرف فيعاند. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثم؟ (قلت): الدلالة على أنّ إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة، لأنّ حق من عرف النعمة أنْ يعترف لا أنْ ينكر.