التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً
٦٣
وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً
٦٥
-الإسراء

البحر المحيط

حنك الدابة واحتنكها: جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها. قال:

نشكوا إليك سنة قد أجحفت جهداً إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي آكلَهما. استفز الرجل: استخفه، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده. وقيل لولد البقرة فز لخفته. قال الشاعر:

كما استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم ينظرنه الحشك

الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء. وقال أبو عبيدة: جلب وأجلب. وقال الزجاج: أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه. وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر، وجمع عليه الجمع. الصوت معروف.

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً }.

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين. أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود. والثاني أنه لما قال { { فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً } [الإسراء: 60] بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس { لأحتنكنّ ذريته إلا قليلاً } وانتصب { طيناً } على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي، فقال: من الهاء في خلقته المحذوفة، والعامل { خلقت } والزمخشري فقال { طيناً } أما من الموصول والعامل فيه { أأسجد } على آسجد له وهو طين أي أصله طين، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه { طيناً } انتهى. وهذا تفسير معنى. وقال أبو البقاء: والعامل فيه { خلقت } يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله { { وخلقته من طين } [الأعراف: 12] وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله { أأسجد } استفهام إنكار وتعجب. وبين قوله { آأسجد } وما قبله كلام محذوف، وكأن تقديره قال: لم لم تسجد لأدم قال: { أأسجد } وبين قوله { أرأيتك } وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته، والكاف في { أرأيتك } للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج.

قال الحوفي: و { أرأيتك } بمعنى عرفني وأخبرني، وهذا منصوب بأرأيتك، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه. وقال الزمخشري: الكاف للخطاب و{ هذا } مفعول به، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال: { لئن أخرتن }. وقال ابن عطية: والكاف في { أرأيتك } حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله { أرأيتك } زيداً أيؤمن هو. وقاله الزجاج ولم يمثل، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويهرحمه الله انتهى. وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في { أرأيتك } هنا هو الصحيح، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله { هذا الذي كرّمت عليّ } لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل: زيد أيؤمن هو دخلت عليه { أرأيتك } فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر. وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل.

وقال الفراء: هنا للكاف محل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال: وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ { هذا الذي كرمت عليّ } انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله: { أرأيتك } بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول { أرأيتك } لذهب مذهباً حسناً، إذ لا يكون في الكلام إضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية، ومعنى { لئن أخرتن } أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً.

وقال ابن عباس: { لأحتنكنّ } لأستولين عليهم وقاله الفراء. وقال ابن زيد لأضلنهم. وقال الطبري: لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر، وظهر ذلك في قوله { أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ } إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم: { { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [البقرة: 30] أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء، وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال { { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ص: 82 - 83] والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال: { جزاؤكم } ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً، وانتصب { جزاءً } على المصدر والعامل فيه { جزاؤكم } أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل: تمييز ولا يتعقل { واستفزز } معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله { { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] ومن في { من استطعت } موصولة مفعولة باستفزز. وقال أبو البقاء: { من استطعت } من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهر لأن { استفزز } ومفعول { استطعت } محذوف تقديره { من استطعت } أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله. وقال مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله. وفيهم بنات حسان، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا. وقيل: الصوت هنا الوسوسة.

وقرأ الحسن { واجلب عليهم } بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان، ومنه: يا خيل الله اركبي، والباء في { بخيلك } قيل زائدة. وقيل: من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد.

وقال ابن عطية: وقوله { بخيلك ورجلك }. وقيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى. وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى. وقرأ الجمهور: { ورجلك } بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم. قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال. وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر:

رجلاً إلاّ بأصحاب

وقال الزمخشري: وقرىء { ورجلك } على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى. وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك. وقرىء: ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال. قال الضحاك: ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة. وقيل: ما أصيب من مال وحرام. وقيل: ما جعلوه من أموالهم لغير الله. وقيل: ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد. قال ابن عباس: تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية. وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة. ما مجّسوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام. وقال مجاهد: عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه. وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.

وقال الزمخشري: { وعدهم } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً، وإيثار العاجل على الآجل انتهى. وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة، وبأنه لا شفاعة في الكبائر، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن. وانتصب { غروراً } وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي { وما يعدكم } ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم، والإضافة إليه تعالى في { إن عبادي } إضافة تشريف، والمعنى المختصين بكونهم { عبادي } لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان.

وقيل: ثم صفة محذوفة أي { إن عبادي } الصالحين، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله { { إنما سلطانه على الذين يتولونه } [النحل: 100]. وقال الجبائي: { عبادي } عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله { { إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42] واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم، ومعنى { وكيلاً } حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو { وكيلاً } يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.