التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
-الكهف

البحر المحيط

{ أم } هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة. قيل: للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال، والهمزة للإستفهام. وزعم بعض النحويين أن { أم } هنا بمعنى الهمزة فقط، والظاهر في { أم حسبت } أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. فقال مجاهد: لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك. وقال قتادة: لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر. وقال ابن عباس: سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك. وقال الطبري: تقرير له عليه السلام على حسبانه { أن أصحاب الكهف } كانوا { عجباً } بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم. قال: وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. وقال الزهراوي: يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم { أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجباً } بمعنى إثبات أنهم عجب، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى. وقال غيره: معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك.

وقال الزمخشري: ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ثم قال: { أم حسبت } يعني { أن } ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى. وقيل: أي أم علمت أي فاعلم أنهم { كانوا } { عجباً } كما تقول: أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه. وقيل: الخطاب للسامع، والمراد المشركون أي قل لهم { أم حسبتم } الآية. والظن قد يقام مقام العلم، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات. وعن أنس: الكهف الجبل. قال القاضي: وهذا غير مشهور في اللغة. وقال مجاهد: تفريج بين الجبلين، والظاهر { أن أصحاب الكهف والرقيم } هم الفتية المذكورون هنا. وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف. فقال الضحاك { الرقيم } بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة { أصحاب الكهف }. وقيل: هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال: "إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف" . وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح. ومن قال إنهم طائفتان قال: أخبر الله عن { أصحاب الكهف } ولم يخبر عن أصحاب { الرقيم } بشيء، ومن قال: بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح { الرقيم } فعن ابن عباس: إنه لا يدري ما { الرقيم } أكتاب أم بنيان، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام. وقيل: من دين قبل عيسى، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم. وقيل: لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام. وقيل: كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم. وقيل: لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف. وقيل: صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة. وقيل: اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير، وعن الحسن: الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية. وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف. وقيل: رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل.

و{ عجباً } نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله، وتقديره آية { عجباً }، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير. ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيانوس. وروي أنهم كانوا في الروم. وقيل: في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتى، ويزعم مجاوروه أنهم { أصحاب الكهف } وعليهم مسجد وبناء يسمى { الرقيم } ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم { أصحاب الكهف }. قال ابن عطية: دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى { الرقيم } كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس. وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى. وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى، وشاهدت فيها حجارة كباراً، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من الله تعالى.

والعامل في { إذ }. قيل: أذكر مضمرة. وقيل { عجباً }، ومعنى { أوى } جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق. وقال الزمخشري: هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء. و{ الفتية } جمع فتى جمع تكسير جمع قلة، وكذلك كانوا قليلين. وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير. ولفظ { الفتية } يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم، اتبعوا دين عيسى عليه السلام. وقيل: كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم، فيقولون: غزونا الروم، جاءنا الروم. وقل من ينطق بلفظ النصارى، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره، دعوا الله بأن يهيئ لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه.

وقال الزمخشري: واجعل { أمرنا رشداً } كله كقولك رأيت منك أسداً. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: وهي ويهيي بياءين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء. وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً. وقرأ أبو رجاء: رشد بضم الراء وإسكان الشين. وقرأ الجمهور { رشداً } بفتحهما. قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى.

{ فضربنا على آذانهم } استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه { { ضربت عليهم الذلة } [البقرة: 61] وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

وقال الأسود بن يعفر:

ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت على الأرض بالأشداد

وقال آخر:

إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج

استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع. وفي الحديث: "ذلك رجل بال الشيطان في أذنه" أي استثقل نومه جداً حتى لا يقوم بالليل. ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة. وانتصب { سنين } على الظرف والعامل فيه { فضربنا }، و{ عدداً } مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد { عدداً } وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض، ووصف به { سنين } أي { سنين } معدودة. والظاهر في قوله { عدداً } الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل.

وقال الزمخشري: ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله { { لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار } [الأحقاف: 35] انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر:

كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسي ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا

{ ثم بعثناهم } أي أيقظناهم من نومهم، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و{ لنعلم } أي لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله { { لنعلم من يتبع الرسول } [البقرة: 143]. وفي التحرير وقرأ الجمهور: { لنعلم } بالنون، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم { أي الحزبين } حكاه الأخفش. وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول يعلم انتهى. فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، فيكون معناها ومعنى { لنعلم } بالنون سواء، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير ليعلم الله الناس { أي الحزبين }. والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث، وليعلم معلق. وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه. وللكوفيين مذهبان:

أحدهما: أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً.

والثاني: أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه.

والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم } [الكهف: 19] الآية. وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم أولاً مختصرة من قوله { أم حسبت } إلى قوله { أمداً } ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله { نحن نقص } [الكهف: 25] - إلى قوله - { قل الله أعلم بما لبثوا } [الكهف: 25].

وقال ابن عطية: والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم { الفتية } أي ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى. وقالت فرقة: هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف. قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف. وقال مجاهد: قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم. وقيل: حزبان من المؤمنين في زمن { أصحاب الكهف } اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء. وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب. وقال ابن بحر: الحزبان الله والخلق كقوله { { أأنتم أعلم أم الله } [البقرة: 140] وهذه كلها أقوال مضطربة. وقال ابن قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله { الله أعلم بما لبثوا } [الكهف: 25]. وقال مقاتل: كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث.

و{ أحصى } جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً، وما مصدرية و{ أمداً } مفعول به، وأن يكون أفعل تفضيل و{ أمداً } تمييز. واختار الزجّاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً، ورجحوا هذا بأن { أحصى } إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس. ويقول أبو إسحاق: إنه قد كثر من الرباعي فيجوز، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن. وفهو لما سواها أضيع. قال: وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى. وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي. وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبنى منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبنى منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل. فلا يجوز، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة، وما أظلم هذا الليل. وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، وإذا قلنا بأن { أحصى } اسم للتفضيل جاز أن يكون { أي الحزبين } موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه، وهو كون { أي } مضافة حذف صدر صلتها، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو { أحصى } { لما لبثوا أمداً } من الذين لم يحصوا، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل { أي } موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها، وهو أن يكون حذف صدر صلتها.

وقال: فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو أعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به، ولأن { أمداً } لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه { أحصى } كما أضمر في قوله:

واضرب منا بالسيوف القوانسا

على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون { أحصى } فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى. أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره. والهمزة في { أحصى } ليست للنقل. وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز، و{ أمداً } تمييز وهكذا أعربه من زعم أن { أحصى } أفعل للتفضيل، كما تقول: زيداً أقطع الناس سيفاً، وزيد أقطع للهام سيفاً، ولم يعربه مفعولاً به. وأما قوله: وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب { أمداً } بلبثوا. قال ابن عطية: وهذا غير متجه انتهى. وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، وما بمعنى الذي و{ أمداً } منتصب على إسقاط الحرف، وتقديره لما { لبثوا } من أمد أي مدة، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ { ما لبثوا } كقوله { ما ننسخ من آية } [البقرة: 106] { { ما يفتح الله للناس من رحمة } [فاطر: 2] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل. وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره فيقول: لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله { { أعلم من يضل } [الأنعام: 117] من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل:

واضرب منا بالسيوف القوانسا

لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم خبرهم { بالحق } أي على وجه الصدق، وجاء لفظ { نحن نقص } موازياً لقوله لنعلم.

ثم قال { آمنوا بربهم } ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده، ولم يأت التركيب { آمنوا } بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون. ثم قال: { وزدناهم هدى } ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال، وزيادته تعالى لهم { هدى } هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم. وفي التحرير { زدناهم } ثمرات { هدى } أو يقيناً قولان، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير.

{ وربطنا على قلوبهم } ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب. وقال تعالى: { { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } [القصص: 10] والعامل في { أن ربطنا } أي ربطنا حين { قاموا }، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال: قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد.

وقال الكرماني: { قاموا } على أرجلهم. وقيل: { قاموا } يدعون الناس سرّاً. وقال عطاء { قاموا } عند قيامهم من النوم قالوا وقيل: { قاموا } على إيمانهم. وقال صاحب الغنيان: { إذ قاموا } بين يديّ الملك فتحركت هرة. وقيل: فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا { ربنا رب السموات والأرض } وكان قومهم عباد أصنام، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول. واللام في { لقد } لام توكيد و{ إذا } حرف جواب وجزاء، أي { لقد قلنا } لن ندعو من دونه إلهاً قولاً { شططاً } أي ذا شطط وهو التعدي والجور، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه، وإما على الوصف به على جهة المبالغة. وقيل: مفعول به بقلنا. وقال قتادة: { شططاً } كذباً. وقال أبو زيد: خطأً.